تكامل الاقتصاد الوطني ألعالمي وتحديات الساعة

د. توفيق رفيق التونچي 

التكامل في الاقتصاد العالمي في المستقبل يحتاج إلى تغير كبير في الفكر الاقتصادي الوطني التقليدي ومجاراة فكرة الاتحاد وتوزيع الأدوار داخل منظومة الاتحاد بين الدول للوصول إلى اقتصاديات قوية وحرة. 
التجربة الاتحادية في جميع دول العالم تثبت يوما بعد يوم نجاحها في جميع المجالات، ولكنها لا تزال تحبو في الشرق الأوسط والتجربة العراقية، إقليم كوردستان، جديرة بالتأمل والاستفادة منها في دول المنطقة لتعددية التركيب السكاني القومي والعقائدي في دولها. هناك ثقافات متعددة بين دول الاتحاد الأوربي اليوم. هناك أيضا اقتصاديات وطنية متعددة تتجمع تحت خيمة الاتحاد وتقوي تكوين أجزائها ومنتوجها ألنهائي لتتحول إلى قوة اقتصادية ذو اكتفاء ذات.  

الترابط الوثيق بين الثقافة والسياسة تودي إلى نجاح جميع المشاريع التجارية بصورة خاصة وجميع المشاريع الأخرى بصورة عامة. هذا الترابط العضوي يؤدي إلى سهولة إدارة الموارد ومن ثم سهولة الولوج إلى الأسواق وبيع المنتوجات المختلفة. كما يقول الاقتصادي الياباني ما معناه: 
لا تنتظر كثيرا فهناك أخرون خلفك ينتظرون في الطابور حتى يأخذوا مكانك. 

لا ريب ان أعراف الأمم لها دورها في هذا المجال فمن الطبيعي بيع بعض المنتوجات منحصرة في ثقافة معينة عنها في دولة أخرى ذو ثقافة وأعراف مختلفة. حتى نوع الأغذية في المطابخ تكون من عوامل المؤثرة على الاستهلاك البشري اليومي وحسب نوع الأطعمة والأغذية ومواد الطبخ. ذلك لوجود رابط بين الاستهلاك الأفراد وثقافتهم فالمواد الغذائية المستخدمة في دولة ما ليس بالضرورة أنها تستخدم في مطابخ دول أخرى وهذا يشمل المشروبات وبكافة أنواعها كذلك. وهذا ما نراه اليوم تقريبا بين جميع المواد المنتجة من الصناعية، الزراعية، المعلوماتية ومصانع الأسلحة والتصنيع الحربي وريادة الفضاء وأمور كثيرة أخرى ترتبط بطبيعة تلك البلدان. وحتى السيارات، وماركات العطور، والساعات وأجهزة الاتصالات الإلكترونية، والمعلوماتية. 

نرى ذلك جليا حتى ضمن الدولة الواحدة حينً تكون شعوبها تعددية الأعراق كما هي دولة العراق وسوريا وايران وتركيا، سويسرا، لبنان ومصر ودول أخرى كثيرة في المنطقة تتباين استهلاك شعوبها للمواد المنتجة من منطقة إلى أخرى ودون اي تكامل او حتى وجود قاسم مشترك وطبعا تكون للبيئة تأثير مباشر على استهلاك المواد ففي المناطق الجبلية الباردة تختلف احتياجات الناس عنها عن المناطق الصحراوية. 
يقول المثل الدارج: ‎
“كُل ما يعجبك والبس ما يعجب النَّاس” 

هذا التناقض نراه بين ما هو سلوك فردي وآخر يهم الجماعة والمجتمع متغير حسب البيئة والمحيط. السياسات الاقتصادية العالمية اليوم تتأرجح بين الوطنية والمنغلقة المحافظة وتقودها الإدارة الأمريكية الجديدة ومنذ نهاية عام 2024 وكانت احدى نتائجها الحرب الاقتصادية العالمية وتبعاتها السيئة على الاقتصاد العالمي وما يجري من حرب في فرض الجمارك على السلع والخدمات مما يؤدي الى خسارة كبيرة للدول المنتجة لتلك السلع وانتقال المصانع الى الولايات المتحدة وانتشار البطالة وأمور أخرى كثيرة. هذه الإجراءات التي ستكون لها فوائد آنية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها ستكون كارثية عليها على المدى البعيد والاستراتيجي ويؤدي دوما الى تغيرات جذرية في البنية السياسية والاقتصادية. وهناك دول وكيانات اقتصادية أخرى منفتحة تحاول ان تحصل على اكبر جزء من الكعكة الاقتصادية العالمية. الصين تعمل في الخفاء وبهدوء محاولة الهيمنة الكاملة على الاقتصاد العالمي وبطريقة سلمية سلسة مستفيدة من أخطاء الآخرين في حين يغيب شمس الدولة الاتحادية الروسية كنتيجة مباشرة لحربها في جمهورية أوكرانيا وطموح إدارتها القيصرية. الهند تحاول جاهدة الخروج من شرنقة العرف والتقوقع والقومية السلبية الحاكمة داخليا وذو السقف المعرفي الواطئ المرتبط بالعقائد القديمة على الفكر السياسي في حين يتبوأ اليوم علمائهم في خارج الهند، بعد تحررهم من القيود الصدارة في جميع المجالات عالميا. الدول ما تسمى العربية ثقافة بقت وستبقى حبيسة بسقفها المعرفي والفكري الذي لا يمكن تجاوزه حتى على سطح المريخ. اليابان لا تزال تحت هيمنة الاقتصاد الأمريكي وتتأثر دوما بمجريات الأمور في أمريكا بعد خسارتها الحرب العالمية الثانية حيث باتت أمريكا اليوم تطمح إلى تأسيس إمبراطورية تشمل القارة الشمالية الأمريكية بأكملها من كندا إلى بنما.

تبقى القارة العجوزة أوربا بين سياسة اتحادها واقتصادها القوي تدافع لوحدها من استقلالها الاقتصادي والسياسي والتعددية الثقافية لشعوبها تحت ضغوط اقتصادية كبيرة وثقل ارث الحرب العالمية الثانية والهيمنة الأمريكية من ناحية وأطماع الروس القيصرية من الشرق.

هذه الخارطة الجديدة في السياسة العالمية تنشر الكثير من الفوضى في الاقتصاد العالمي مما أدى إلى مراجعة العديد من دول العالم خططها الاقتصادية واستراتيجياتها العسكرية وما يخص شراء الأسلحة وسباق التسلح خطيرة على البشرية جمعاء مما قد يدفع إلى الصناعة العسكرية والحربية تزدهر وتتطور وخاصة في دول أوربا والصين وروسيا وكل ذلك في النهاية تقف في الطرف الضد من سيادة السلام والوئام العالميين حيث هناك توجه واضح الى تقوية اقتصاديات الحرب في ميزانياتهم الوطنية مع انضمام دول كانت على الحياد كمملكة السويد الى الناتو.. أما من الناحية الفكرية فهناك فوضى عارم خاصة في معسكر اليسار الذي انقسم بينً تاييد خطط روسيا القيصرية في احتلال المزيد بعد اختلالها شبه جزيرة القرم ودون اي استياء او تنديد دولي مما شجعها على احتلال جزء كبير من أوكرانيا وتهديد جميع دول الجوار وحتى باستخدام السلاح النووي. الجدير بالذكر ان حلف ناتو بدأ بالنمو تجاه الشرق ويعتبرها الروس تهديدا لأمنهم الوطني وبغياب كامل لحلف وارسو بعد انهيار جمهوريات السوفييت السابق. كما نرى انتعاشا للأفكار القومية السلبية بين أبناء جميع شعوب أوربا وتوجهات النازية الجديدة التي ترى في المهاجرين خطرا على شعوبهم وثقافتهم لتوقعهم وعدم تكاملهم في المجتمعات الغربية وحصولهم على المقاعد في الانتخابات النيابية في دول أوروبا وفي البرلمان الأوربي.
 
الاتجاهات الجديدة في السياسة الأمريكية ستدفع بالدرجة الأولى أوربا والدول الاخرى إلى المزيد من الاعتماد على النفس وترك تبني الأمريكان وسيطرتهم مما يدفع إلى استقلالية أوربا على الأقل صناعيا عنهم وهذا يعني بان المصانع التي تمتلكها كليا او جزئيا الأمريكان سيغادرون الأراضي الأوربية وتدفع بألاوربيين بإيجاد البدائل وتطوير إنتاجهم  او الاعتماد على التمويل الخارجي من الصين و روسيا وبذلك تنتهي الهيمنة الأوربية على القارة العجوزة والتي استمرّت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتبقى تأثير كل ذلك على الولايات المتحدة الأمريكية موضوع تحليل ونقاش وسوف نرى تأثيرها على المدى البعيد إذا لم يتغير جذريا السياسة التي تتبعها الحزب الجمهوري في المستقبل. 

ما يهم دول الشرق الأوسط عليهم دراسة تلك الأوضاع الجديدة في السياسة الدولية واتباع سياسات اكثر تضامنية وسلمية بين دولها من ناحية ومن ناحية أخرى عليهم أبعاد هيمنة العسكر على القرار السياسي في دولهم وألتخلص من عبادة الأشخاص من قاموسها والتوجه إلى شعوبهم لتقديم الخدمات وتحسين حالتهم المعاشية والاقتصادية. كما انها يجب ان يخرج من دائرة المجتمعات المستهلكة الى صف تلك المنتجة. ان أجراء دراسات أولية استراتيجية لمجريات الأمور عالميا وتأثيرها المباشر والغير مباشر مهمة تقع على العقول النيرة في الشرق. مع زيادة وتيرة النمو السكاني في المنطقة حيث سنرى في المستقبل مليار من البشر يعيشون في ظروف مأساوية في المنطقة ومع زيادة الفساد الإداري سنعود إلى اخر أيام نهاية وانهيار الدولة العثمانية بعد تفشي الفساد بين أرجائها.
الصورة قاتمة للعالم بصورة عامة ولدول الشرق بصورة خاصة ولا يمكن للإنسان الواعي ان يفهمً كيف يتم انتخاب ديمقراطيا أناس متطرفون شبه مجانين كي يقودوا هذا العالم إلى الفوضى ومن ثم الى الفناء.

السويد

 ٢٠٢٥

قد يعجبك ايضا