الرسام قاسم الشرقي : لاجئ يحوّل المعاناة إلى إبداع ملهم

حسو هورمي

في قلب ألمانيا، تلك الأرض التي أصبحت ملتقى ثقافات متنوعة ومشاهد إنسانية متداخلة، يعيش فنان استثنائي يُجسّد بقوّة شغفه بالفن، مصحوبًا بإرادة حديدية تحوّل المعاناة والألم إلى رموز للبحث عن الأمل. قاسم الشرقي، الفنان الإيزيدي القادم من سنجار في العراق، هو مثال حيّ على كيف يمكن للإنسان أن ينهض من تحت ركام المآسي ليُعيد صياغة حياته من جديد ويحوّل آلامه إلى فن يعبر الحدود ويلامس القلوب.
ترعرع قاسم في مدينة سنجار الواقعة ضمن محافظة نينوى في العراق وسط حياة بسيطة مليئة بالتحديات، بينما كان حبه للفن وموهبته النادرة في الرسم ينموان معه منذ نعومة أظافره. على الرغم من الظروف القاسية التي أحاطت به وبأهل بلدته، كان الفن نافذته الوحيدة للتعبير عن مشاعره وأفكاره. عشقه الكبير للرسم كان واضحًا منذ البداية، لكن الأحداث المأساوية التي ضربت مجتمعه جعلته يدخل في رحلة محفوفة بالمصاعب. عندما اجتاح تنظيم داعش سنجار في عام 2014، عاش قاسم مأساة إنسانية تسلب كل شيء؛ الوطن، العائلة، وحتى الذكريات. لكنه قرّر الفرار حاملًا بين ضلوعه حلمًا واحدًا، أن يصل إلى العالم بفنه ويُحقق ما لم يكن يومًا مستحيلًا في عينيه.
من جحيم المأساة إلى أرض الفرصة: طريق اللجوء
هجّرته أقداره من مسقط رأسه، ودفعته قسوة الأيام إلى خوض رحلة شاقة انتهت بوصوله إلى ألمانيا كلاجئ يبحث عن بداية جديدة. انتقال قاسم من تلك البيئة المثقلة بالألم إلى وطن جديد مجهول كان أشبه بإعادة ولادة في ظل مرحلة جديدة محفوفة بالتحدي والتغيير.

هنا قرر قاسم الشرقي أن يناضل بكل طاقته لكي يبني جسور التواصل بين ماضيه المأساوي ومستقبله المشبع بالأحلام والطموحات ،فعند وصوله إلى ألمانيا، وجد نفسه أمام واقعه الجديد؛ لا عائلة قريبة تؤنس وحدته ولا إمكانات مادية تتيح له الانطلاق بفنه. مع ذلك، جمع شتات نفسه وسعى للعمل نهارًا لكسب رزقه عبر مهنة الحلاقة التي تعلمها كوسيلة للبقاء. أما الليل، فكان مرسمه المكان الذي تتجلى فيه أحلامه وهو يرسم بحرارة وعاطفة. هناك كان يطلق العنان لفرشاته لتروي قصصًا مليئة بالتشابك العاطفي والوعي الثقافي.

الفن كملاذ للألم ونافذة للأمل
الفن بالنسبة لقاسم لم يكن هواية عابرة يُمارسها في أوقات الفراغ، بل كان طريقه الرئيسي للتواصل مع نفسه ومع العالم من حوله. احتوى فنه رسائل قوية عن معاناة شعبه وألمه الممتد لعقود، حيث استخدم الألوان والرموز ليحكي قصصًا عن التهجير القسري والاضطهاد الممنهج الذي واجهه الإيزيديون في عراقهم الأم. جاءت لوحاته بمثابة صرخة بصرية ضد الظلم، محاولة لتوثيق التاريخ بخطوط تعبيرية تفوح منها الدراما الإنسانية.
تميزت لوحاته بمزيج من الرمزية والتعبيرية الفنية التي تُبرز ما بين الألم المزروع في عروق الماضي وشغف للحياة يستمد جذوره من الحلم بغدٍ أفضل. وسط تفاصيل كل لوحة تجد الأمل حاضرًا في زوايا الألم؛ كما لو أنه رسالة فنية تصر أنه حتى وسط الظلمة هناك دومًا بصيص يروي قصص النهوض.
رحلة فنية تخترق الحدود الثقافية والجغرافية
إبداعات قاسم وصلت إلى جماهير واسعة من خلال تنظيم معارضه الفنية على الأراضي الألمانية. تلك الفعاليات لم تكن مجرد منصات لعرض الأعمال بل كانت ساحات لاستعراض الهوية والروح الثقافية الإيزيدية وقضية اللاجئين في محيط عالمي يحتاج باستمرار للتواصل والتذوق الفني الهادف. عبر معارضه، استطاع الشرقي أن يُبرز تراث الإيزيديين المهدد بالاندثار وأن يُعرّف الناس بالثقل الثقافي الذي تحمله هذه الأقلية العريقة.
نالت لوحاته ثناءً لا حدود له من النقاد والجماهير على حد سواء، ليس فقط لجمالها البصري بل أيضًا لقدرتها على الربط بينعمق التراث الإيزيدي وسحر الميثولوجيا، مقدّمًا إياها في قالب حديث ينبض بالحياة. في مشهد فني تتداخل فيه الثقافات والتاريخ مع الإبداع المعاصر، يظهر قاسم الشرقي كفنان مميز تمكن من تحويل إرثه الإيزيدي الغني إلى لغة بصرية تجمع بين الأصالة وروح العصر. أعماله ليست مجرد لوحات تقليدية، بل هي بوابات إلى عوالم غنية بالرموز والمعاني، يمزج فيها ببراعة بين عبق الماضي ونبض الحاضر، ليأسر المشاهد ويحفزه على التأمل العميق في الرسائل التي تبثها كل قطعة فنية.
في أعماله الفنية، يوظف قاسم الشرقي التراث الإيزيدي من خلال تداخل فني إبداعي يمزج الأساطير الإيزيدية مع تلك المستمدة من ثقافات أخرى. لوحاته تُفيض بالميثولوجيا ورموز إنسانية عالمية تعكس صراع الخير والشر، دورة الحياة والموت، وتصارع الأمل واليأس. تظهر في هذه الأعمال رموز مثل “طاووس ملك”، الرمز المقدس للإيزيديين الذي يمثل رئيس الملائكة، إلى جانب الأشكال الهندسية والزخارف التقليدية المستوحاة من الفن الإيزيدي العريق. هذه العناصر ليست مجرد إضافات زخرفية، بل هي جزء أساسي من سرد بصري أعمق يعبر عن هوية الفنان وقصته الشخصية.
جولة كاتب في مرسم فنان
في زيارتي لمشغل الفنان والرسام الشرقي شباط 2025 ،شاهدت ان كل لوحة يقدمها قاسم الشرقي تشكل حكاية مكتملة بحد ذاتها، تزخر بدلالات ورموز تحتاج إلى تأمل عميق لفك شفراتها. على سبيل المثال، قد تحتوي إحدى اللوحات على طاووس ملك يحيط به أشكال هندسية ترمز إلى الكون والخلود، في حين تصور أخرى شخصيات بلا ملامح تجسد معاناة اللاجئين وفقدان الهوية. الرموز المستخدمة تتجاوز كونها انعكاسًا لتجربة قاسم الفردية، لتصبح جزءًا من التجربة الجماعية التي عاشها الإيزيديون تاريخيًا، مما يضفي على أعماله إيقاعًا إنسانيًا ينسجم مع العالم المعاصر.
يتبنى الشرقي تقنيات رسم متطورة تُضفي الحداثة والجاذبية على لوحاته. يستخدم الألوان الزاهية، الأشكال التجريدية، والتراكيب البصرية المعقدة ليخلق أعمالًا مفعمة بالحياة وصديقة للمتلقي العصري. هذا التزاوج بين الأصالة والحداثة يجعل رسالته الفنية ذات طابع بصري مستحدث وبُعد إنساني يرتبط بجمهور متعدد الثقافات.
تُمثل تجربة قاسم الشرقي مثالًا قويًا على قدرة الفن في المزج بين الماضي والحاضر بوعي وإبداع، ليشكل بذلك وسيلة متجددة للحفاظ على التراث الإيزيدي ونقله إلى العالم الواسع. فلوحاته لا تقتصر على التعبير عن هويته وثقافته، بل تسعى لإيصال رسالة أعمق عن أهمية الحفاظ على الهوية الإنسانية في عالم سريع التحول.
إبداع قاسم الشرقي يكشف قدرة الفن على تجاوز الحدود الجغرافية والزمنية لينقل رسائل إنسانية عالمية. عمله يعكس قوة الإرادة التي يتملكها الفنان لابتكار الجمال حتى في أحلك الظروف، ويجعل من فنه صوتًا لكل من واجه الظلم والمعاناة. إنه يذكّرنا بأن الفن، في جوهره، هو جسر يربط الإنسان بعالمه الداخلي والخارجي.
ختامًا، يُعد قاسم الشرقي رمزًا بارزًا لجيل من الإيزيديين الذين برغم الألم والضياع، نجحوا في تحويل مآسيهم إلى مصدر قوة ونقلوا صوتهم للعالم بأكمله. إن تكريمه يأتي من كونه تمثيلًا صادقًا للصمود الإنساني وتجسيدًا مثاليًا لفكرة أن الجمال يولد من رحم المعاناة.

قد يعجبك ايضا