صبحي مندلاوي
تمر الشهور، وتمر السنون، لكن آذار يبقى حكاية مختلفة في وجدان الكورد، قدر يطاردهم ما بين الفرح والحزن. فهو ليس مجرد شهر يمر في التقويم، بل كتاب مفتوح على تاريخهم، تتقلب صفحاته بين المجد والمأساة، بين الولادة والفقدان، بين انتفاضات تحررية ومجازر دموية. إنه شهر يختزل تاريخ أمة نزفت دماءها في دروب الحرية، وروت أرضها بأشلاء شهدائها، وما زالت رغم كل ذلك تقف، تمضي، وتحلم. وكأنما كتب على هذا الشعب أن يكون آذاره مزيجًا من النور والنار، من الفرح والأنين.
في الأول من آذار، طوى التاريخ جسد البارزاني الخالد، لكنه لم يستطع أن يطوي فكره. ملا مصطفى البارزاني لم يكن رجلًا يعبر الحياة كغيره، بل كان جبلًا من الكبرياء والصمود، امتدت ظلاله على مدى كوردستان بأكملها. قاوم بكل ما أوتي من قوة، لم ينحنِ لريح، ولم يساوم على كرامة. ولأن للقدر كلمته، شاء أن تكون ولادته أيضًا في آذار، في 14 من الشهر نفسه. وكأن هذا الشهر لم يمنحه شيئًا دون أن يأخذ مقابله شيئًا آخر.
وفي آذار أيضًا، حينما حملت الرياح رائحة الموت، احترقت حلبچە تشبّعت سماؤها بسموم الخردل، تلك المدينة التي كانت تنام آمنة تحت جبالها، أمطرتها الطائرات العراقية بالغازات السامة في 16 آذار 1988. سقط الأطفال والنساء والشيوخ كأوراق الخريف، غدرًا وظلمًا. لم يكن يومًا عاديًا، بل كان صرخة في وجه الضمير العالمي، شهادة دامغة على وحشية الطغاة. لم تكن حربًا بين جيوش، بل كانت مجزرة، إبادة ممنهجة. حلبچە لم تمت، لكنها بقيت ندبة في جبين الإنسانية، وشاهدًا على صمت العالم، الذي لم يسمع أنينها إلا بعد أن صارت جثثها أرقامًا في كتب التاريخ.
و في آذار – أيضا – قررت حكومة إقليم كوردستان تحويل حلبچە إلى محافظة في 31 آذار 2014، بعد موافقة برلمان الإقليم على ذلك، لم يقم النظام الإتحادي العراقي الجديد ولغاية اليوم بإعتماد حلبچە محافظة رسميا رغم حقها الدستوري والقانوني والإنساني كذلك.
لكن آذار لم يكن شهر الحداد فقط، ففيه يأتي نوروز، العيد الذي يشعل قلوب الكورد فرحًا، ويجعل الجبال ترقص بألسنة اللهب. حين يشعل الكورد نيران نوروز، فإنهم لا يشعلون نارًا عادية، بل يضيئون دربًا طويلًا من المقاومة. نوروز ليس مجرد عيد، بل هو يوم تتجدد فيه روح الكورد، هو رمز للتجدد، للانبعاث من تحت الرماد، للتمسك بالحياة رغم كل محاولات الإبادة.
وفي هذا الشهر أيضًا، نهضت كوردستان من تحت الرماد، حينما انتفض الشعب في 5 آذار 1991 ضد أعتى طغاة العصر. كسّر قيوده، حطم جدران الخوف، وخرج من ظلام القهر إلى شمس الحرية، واستعاد مدنه الواحدة تلو الأخرى، في انتفاضة لم تكن مجرد تمرد سياسي، بل كانت ولادة جديدة لشعب قرر ألا يعود إلى القبر الذي أعدته له الديكتاتورية. كانت تلك الانتفاضة إعلانًا بأن كوردستان لن تعود إلى الوراء، وأن الشعوب قد تنكسر، لكنها لا تموت ما دامت جذورها ممتدة في الأرض.
ويستمر آذار في قدره، وكأن الله أراد أن يجعله تاريخًا لأمة ظلمت. ففي 11 آذار 1970، كان هناك اتفاق لم يكتمل، حين وقّعت الحكومة العراقية اتفاقية تاريخية مع القيادة البارزانية الخالدة. كان ذلك الاعتراف الأول بالكورد ككيان سياسي، وكشعب له حقوقه التي انتزعها بتضحيات جسام، لكنه ظل اعترافًا ناقصًا، وسرعان ما انقلبت الحكومة عليه، ليعود الصراع إلى نقطة البداية.
ويمضي آذار، لكنه لا يرحل أبدًا من ذاكرة الكورد. ففيه الولادة والموت، الثورة والمجزرة، الحكم الذاتي والغدر، الاحتفال بالحياة والحداد على الأحبة. إنه قدر الكورد الذي لا يرحم، يجمع أفراحهم وأحزانهم في صفحة واحدة، كأنما يريد أن يقول لهم: أنتم أمة لا تُكسر، أمة تُولد من جراحها، وتنهض من رمادها، وتكتب تاريخها بالنار والنور.
آذار ليس شهرًا في التقويم، بل هو قدر هذه الأمة.