نهاد الحدبثي
كل منا يحن لهذا الماضي الجميل زمن الطفولة والشباب الخالي من المسئوليات والمخاوف.. كل منا يراها أيامًا دافئة في عمق العلاقات بين الأهل والأصدقاء والجيران — وبلا شك سيكون الماضي عبارة عن صور كثيرة تحتشد في الذاكرة.. بعضها بالألوان والبعض منها فاحمة السواد ،ولكن الحنين إلى الماضي الجميل بذكرياته الرائعة أكثر التصاقا بجدران الذاكرة ، انه الشعور بالأمان الذي يغمر النفس عندما يزور المرء البيت القديم الذي عاش فيه والحي الذي ترعرع فيه ، والمدرسة التي تعلم فيها الأبجدية وحروفها ، يجسدها الحنين إلى ذكريات الطفولة ومرابع الصبا وذكريات الشباب ، وقد نسترجعها من صورة قديمة أو الجلوس تحت شجرة وارفة الظلال كنا نلعب تحتها في السنين الخوالي ،أو شجرة سدر تتعلق فيها أعشاش العصافير الصفراء ،أو نتذكر الماضي ونراه يتجدد في سيول الصيف المتدفقة في الأودية والسواقي ويغمر الأطيان الظامئة حتى ترتوي.
نحن نعشق الماضي , ونصفه بالماضي الجميل , لشعورنا بالانتماء له , ويذكرنا الماضي بالاحترام وحياتنا البسيطة بدون ترف , كنا لانملك بيوتا فخمة ولا سيارات فارهه, حياتنا هي سقوف المحبة والتألف والطيبة, كنا نعيش اجواء رمضان وامسياته بالفوانيس والمحيبس وحكايات مضانية بصفاء الروح والوجدان والانتماء للعائلة والوطن عكس كليا مما نراه اليوم حيث ضاعت مأثرنا وسحقت بعجلة الزمن التافه الملىء بالنفود والصراعات والفساد والموبقات والمحرمات!!
نحن نولد في الماضي ، ونعيش في الحاضر ، ونموت في المستقبل — كم مرة أخبرك أحدهم بأنه يحب أفلام الأبيض والأسود؛ لأنه يشعر براحة مختلفة عند مشاهدتها؟ أو أنه يتمنى العيش في فترة الخمسينات والستينات — كم مرة ردد أحدهم أمامك أن عظمة الطرب قد تلاشت بعد عبد الوهاب وأم كلثوم وأن كل الجديد في هبوط أو تقليد مبتذل؟ أو آمن أن قصص الحب كانت أصدق وأرق بين المكاتيب الورقية وأثناء انتظار العشاق لنظرة تحت الشرفات العالية؟ الزمن الماضي كان أفضل عموماً من الوقت الحالي أو الفترة التي يعيشها الشخص، حيث تختلف عن التعلق بالذكريات تحديداً، أو بالأوقات السالفة التي عاصرها الشخص، فحنين الشخص لماضيه أمر طبيعي بل مفيد في سياقه المعتدل، خصوصاً مع مرور الإنسان بمراحل أو ظروف انتقالية في حياته “الشيخوخة، التقاعد، الهجرة، وفاة أحد المقربين.. إلخ
واقعنا يقول إن ماضينا أقوى من مستقبلنا، ولا أتصور أن الانعتاق من “وهم الانتماء” أمر ممكن في الوقت الراهن، لأن الصور المشاهدة التي هي “حلول سهلة” تطغى على الذهن، خصوصا مع صعود مجموعة ذات تفكير “قروسطي” تقود المشهد المعرفي والثقافي وبيدها تشكيل صورة المستقبل، الذي يبدو أنه سيكون أحد الحلقات المكررة للماضي.
الماضي تختزن حالة الحنين إلى «المجهول» أو «الأسطوري» الذي يصعب تعريفه أو تحديده بدقة , وهذا أمر متوقع لأن العاطفة تغلب علينا أكثر من التفكير النقدي المحايد. ويذكرنا الماضي الاسهامات العظيمة التي قدمتها الحضارة الإسلامية للبشرية, ويذكرنا الماضي الابتكارات العظيمة التي اندثرت مع الوقت لكن الغرب أحتضنها وتبناها وطورها وبنى حولها معرفة مؤسسية عميقة نقلت الحضارة الإنسانية إلى ما نعيشه اليوم , ويذكرنا الماضي اننا كنا امة ووطن لا نهاب , كنا واقعا اسطوريا فتوحا وعلما وثقافة , فكل ما يذكرنا الماضي هو مجد ومديح لإنجازات العلماء المسلمين الذين أسهموا بلا شك في بناء الحضارة الإنسانية في القرون الوسطى, والواقع يقول إن المسلمين لم يستطيعوا أن يحولوا اسهاماتهم المبكرة إلى مؤسسة معرفية ولم يصلوا بها إلى مرحلة الإنتاج، والنقد هدفه بحث الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة وليس التقليل من المنجز الحضاري الذي قدمه المسلمون.