الهادي عرجون
ما قبل القول: “نحن نعيش نصف حياة فقط، أما النصف الآخر فذاكرة”
ميلان كونديرا: « رواية خفة الكائن التي لا تحتمل ».
في ظل التشوهات الفكرية التي انصبغت بها تنظيرات الإسلام السياسي وأطروحاته الأيديولوجية في العالم العربي وتونس خصوصا، بتمكنهم من التحكم بدواليب السلطة واستغلال مواقعهم لترسيخ تلك تشوهات الفكر الظلامي المتشدد، في جميع مظاهره، الثقافية، والدينية، والسياسية، يولد من رحم هذا القلق الوجودي رواية «زمن الغبار» للكاتبة فاطمة بن محمود لتفكيك خطابه، وتفضح آلياته، وتنقد مبادئه التي تناقض المعطيات الدينية التاريخية، معتمدة على المنهج العقلاني في التحليل والمقاربة النقدية، بالتحليلات والتفاسير القرآنية والأحاديث النبوية والنقود الموضوعية المعززة بالأسئلة الفلسفية العقلانية العميقة.
فمن خلال هذه الرواية تنبش الكاتبة مرة أخرى في بعض المشاكل الزائفة التي أتى بها الإسلام السياسي إلى تونس، لكن بتقنية مختلفة تماما عن روايتها «الملائكة لا تطير»، حينما تجعل من الزمن والذاكرة أبطالا فعليين.
حيث يمكن تصنيف الرواية ضمن الروايات السياسية الاجتماعية الهادفة التي تعيش قلقا وجوديا وصراعا نفسيا مع الواقع المتغير إلى عرض مشاهد وأحداث واقعية عن وضعية الأسر التي عانت من تسفير أبنائها إلى بؤر التوتر ولم تجد آذان صاغية لها وكذلك وضعية المسفرين الذين غرر بهم ليكتشفوا زيف ما وجدوه رغم تعنت البعض منهم مع إضفاء بعض الجماليات السردية المتخيلة على أجواءها.
فلا تكتفي الكاتبة بتصوير ما يتعلق بعائلة (ثريا) ومن ارتبط بها من شخصيات روائية، وإنما تمتد لتحكي عن تونس في زمنين مختلفين زمن ما قبل الثورة وزمن ما بعد الثورة، كما تنقل أحداثا أخرى تتجاوز حدود تونس وتستفحل بكثير من بلدان العالم العربي، وتستثمره في إشارات فنية دالة لتجسد تحولات الحياة وتبدلات مصائر الشخصيات الروائية.
وهو ما يجعل السرد في رواية «زمن الغبار» هو التمفصل السردي المزدوج الذي يوزع الخطاب الروائي إلى مجموعة من الحالات والتحولات التي تتشاكل مع زمن الأحداث، والأنساق الاجتماعية: فالخطاب الروائي يتمفصل إلى مسارين سرديين:
ما قبل الثورة، وما سبقها من أحداث، وبالتالي بداية برنامج سردي يؤسس لواقع معيش.
ما بعد الثورة في ظل الانتقال السياسي والتحولات الاجتماعية، حيث سيبدأ برنامج سردي جديد لواقع مختلف في ظل الأحداث التي عقبت الثورة من اغتيالات و من تسفير الشباب إلى بؤر التوتر.
حيث تتقمص الكاتبة فاطمة بن محمود في رواية «زمن الغبار» دور الصحفية التي تتقصى الأحداث حين تتصل بعائلات المحتجين في الوقفات الاحتجاجية، وتطلب شهادات عن تسفير الأبناء لسوريا. وتلقى التجاوب من ثريا، والصد من عائلات أخرى على غرار أم أمل. تسجل الأحداث وتلتقط صورا لغرفة ربيع ص146. تدون كل التغيرات في حياته، مثل الحديث اليومي، تحايا الصباح، غمامة من الحزن على الوجوه. تسجل هذه المعطيات وتحاول التخفف من ثقلها وتحافظ على عائلتها من غزو أفكار دولة الخلافة لتعيش أزمة نفسية وتحاول أن تطرد الشعور بالاكتئاب والاختناق، «في جهة من المدينة، يقع بيت الكاتبة فاطمة بن محمود التي تركت مكتبها وقد تكدست عليه أوراق كثيرة وجذاذات مختلفة عليها ملاحظات تخص كل شخصية في الرواية»(ص 229)، فزمن الذاكرة أرهقها وجعلها تتـألم لأجل هذه الشخصيات فتشعر كأنها مكان (ثريا) لتجد نفسها في محاولة لسبر أغوار الذاكرة الأنثوية، من خلال الكتابة عنها. غير أنها تبدو وكأنها المرآة التي تعكس أسئلة الذات الأنثوية، من حيث إنها موضوع للحكي.
لتتجاوز الذاكرة في الرواية كونها انعكاسا لمحتوى ومضامين محددة، إلى تمثلاتها بوصفها شكلت محتوى يؤسس الخطاب الروائي وينسج بنياته السردية، وهذا ما تبين من خلال نسق اشتغال الزمن والشخصيات والفضاء ومنظورات الراوي. وهو ما يجعل من الذّاكرة أحد أهم روافد الكتابة الروائيّة، حيثُ إنّها تُسهم في فتح منافذ إلى التّخييل والعبور نحو استقصاء وسبر التّجربة وعوالم الكتابة
لتكون الرواية رواية استذكار بامتياز، نظرًا لتوقف الكاتبة عند مفهوم الذاكرة وسبر أعماقها من خلال سرد أحداث مختلفة في زمن قصير (يبدأ يوم الأحد 28 جويلية 2013 الموافق ليوم 19 من شهر رمضان 1434 هجري الساعة الرابعة مساء وينتهي يوم الاثنين 29 جويليه 2023 الموافق ليوم 20 من شهر رمضان 1434 هجري على الساعة السابعة والنصف) متنقلة بتوقيتاته الزمنية التونسية والسورية، بين مصحة الهناء غرفة رقم 216 في تونس، وعدة أمكنة داخل سوريا من بينها المستشفى الميداني لمعسكر الزرقاوي بمدينة الرقة، وتحديد طبيعتها ووظائفها عند شخصيات عايشت أحداثًا جرت في مدينتين مختلفتين وفي زمن محدد من خلال تصوير أحداث تخييلة.