ماجد عاطف
أخذ إجازة غير مدفوعة من عمله، وجهّز نفسه وسافر في اليوم التالي. لحسن الحظ كان النشاط التضامني معها هناك، في الأردن، ووصله على الواتس اشعار بمكان حدوثه وزمانه. لا أحد، ولا هي نفسها، يمكنه أن يعرفه الآن. نُسي، وتغيّر شكله، وغيّر عمله. بل إن سجلات الأحوال الشخصية تغيّرت أيضاً. زيادة في الحيطة طلب تغيير اسم العائلة الواسع إلى آخر أقل ضيقاً، وكان لديه مبرر قانوني.
في الوثائق على الحدود كتب أنه داخل المملكة في زيارة عائلية، وكيلا يتورّط فيما بعد، فقد كان أول شيء فعله بعد أن حجز ليومين في فندق شعبي، هو أن زار أقارب له فعلا وتناول الغداء معهم. مكث نحو ساعتين، ثم ودّعهم واعداً إياهم بزيارتهم قبل العودة. ادعى أن له عملا يقتضي منّه الخروج والمتابعة.
كان يعرف أشياء قليلة عن الأردن ويمكنه تدبّر أمره، ولكن ليس بدون الاستعانة بأحد، سواقين ومارّة. تجنّب الطلب من قريب. لم يرد أن يترك أثراً لفهمٍ أو تقوّل. عاد للفندق وسأل الاستقبال عن خريطة سياحية، فدلّه على مكتبة شعبية قريبة. انتقى خريطة صدرت قبل سنة، وهي محدّثة إلى حد بعيد وجيّدة. ركب حافلة صغيرة أوصلته للمكان المقصود، وتفحّصه من الخارج. جميل وواسع وراقٍ مغطى بالزجاج المبهج مساءً.
كان عمله البديل بعيداً عن مجال عملها، ولكنه تدبّر أمره عبر مجموعات الانترنت أولاً ليظل قريبا، ثم وصل لمجموعة واتس أمكنه فيها متابعة أخبارها وبعض الأشياء، عن قرب. ومن الانترنت كنت يتلصّص قدر ما استطاع.
لقد دمّرته قبل عشرين عاماً وسرقت حلمه، وها هو الدور قد وصلها أيضاً. لم تنفعها الهوية الزرقاء ولا البيئات الوسيطة ولا مهاراتها في التواصل أو لغاتها، خاصة العبرية.
في ذلك الوقت كان التنافس بينهما على العطاء شديدا.
بحسب المقيّمين العرب الاستشاريين وبعض الموظّفين الأجانب، كما تناهى لمسامعه، كان كل شيء لصالحه. شركته كانت ناشئة لكنها أكثر قدماً، أكثر اتصالاً، أكثر خبرة وانجز الكثير. قدّم الأوراق المطلوبة بعد ترجمتها المختصة المكلفة، المشروع والعرض والاقتراحات وسير المختصين وضمانات التحقق من التنفيذ والرصيد البنكي وكلفة الاستشاريين، أكثر مما هو مطلوب. وكانت التكلفة النهائية لا تشمل حتى أجرته هو، أقل مما قدمته هي في شركتها التي تعمل فيها، ولكنه كان طامعاً فيما سيلي الموافقة ورسو العطاء عليّه. كانت ستكون خطوته الأولى للتفرّغ لهمومه الأوسع، التي داخله، باحتراف.
لكن ما منطق في اختيارات المموّل الأوروبي وحساباته. اختاروا شركتها هي، التي كانت وهمية من مكتب جهة على صلة، ليس لها مقر بعد ولا انجاز سابق، ولكن من بين مؤسسيها حاملان لجوازي سفر بريطانيين، إلى جانبها هي، حاملة الهوية الزرقاء، صاحبة الصلات باللغة العبرية، المنسّقة.
لا يمكنه منافسة أجسام غير فلسطينية على صلة بدوائر ووزارات هنا وهناك..
كان يمكنه أن يلعب بالمقصقص بعد أن طار الطيّار على أمل طير قادم آخر، وأن يمرّ في اعتبارات يقبلها كل راغب في التأقلم وتدبر الحال، لكنه أبى. لم يقبل الاحتكام إلا للمهنية، ولا دخول هيكيلية مفروضة واعتبارات مفروضة.
باع منزله من أجل تسديد التكاليف الكثيرة واستأجر غرفة للإقامة. وعندما قلّب الأمر على نواحيه المختلفة، وحيثما كان شخص معنيّ أو منتفع لم يقل كلمة حق أو يقف وقفته أو ينبّهه، قرّر أخذ موقف منه.
بعد إيجاد وظيفة عادية انتهج نهجه الخاص بشكل جانبيّ وبأقل تكلفة ولا يمكن احباطه البتّة. وها ما فعله بعد الوظيفة متفرّغاً له، دون حاجة إلى أي ورقة رسمية.
كان سيلزمه التنكّر المعقول للغد، ولحسن الحظ فإن الجو متقلّب يحتمل المطر.
ابتاع مظلة من محل في صف شعبي من المحلات المتجاورة والمتقابلة يفصلهما شارع مبلّط عتيق، وقبعة كالتي للمصورين قديما، وبحث عن نظارة عريضة العدستين كالتي للقراءة، ويمكنها إخفاء أكثر ملامحه.
كان الأمر بوليسيا طفولياً لكنه ضروري، إنه الآن ليس أكثر من رجل خمسينيّ عاديّ ثقيل الحركة، يذهب من أجل رؤية امرأة لا تخلو من العبث (سمع تلميحات عن مغامرتها)، وتصغره بعامين.
في بريطانيا التي سافرَت اليها بعد نيل العطاء عليها، مكَثَت سنوات طوال. تنتقل من صلة مهمة لأخرى أهم مع أخبار إعلامية نوعية، وصارت بعد خمس سنوات وسيطاً مع الشركات المحلية الناشئة في دول كثيرة، تقرر هي لمن سيُعطى التمويل. من الخلف، كما قدّر، بنت شبكة علاقات أوسع..
لديها أكثر من شهادة جامعية متقدّمة لم تكن تحتاج إليها، غير أنها تضمن لها التفوّق دائماً خصوصا مع حصولها عليها كمنح ومكافآت. لم يكن له فرصة البتة لأنه متسرّب قديم من المدرسة أيام الانتفاضة، أنهى الدراسة الخاصة بشق الأنفس، وتخرّج من الجامعة المحلية الرديئة باحثاً عن فرصة معرفية حقيقية. لقد بنى نفسه بنفسه من الصفر لا أحد على الاطلاق له فضل عليه، وبقيت اللغة الإنجليزية عائقاً.
وكرّست هي سيرة نقابية ومهنية وحققت نجاحاً في التوسّط.
أمّا في منافسة أوروبية خاضتها كفلسطينية مقبولة قدمت مختلف أنواع (الاعتماد) المطلوب خاصة موافقة الأمن، وكانت ستقدّم بوصفها الابداع في مجاله، بمجرد أن ظهر ابداع حقيقي من تحت الصفر في كل المجالات في غزّة، بما فيه مجالها نفسه ودون تمويل، فقد تراجعوا عن تكريمها.
غزّة دمّروها، تلك التي كان يرقب بعين خفية ما امكنه من تحرّك شركتها داخل أجسامها..
صارت الفلسطينية الممثلة للقضية التي تطلب نخوة العُربان ليقفوا إلى جانبها!
استشاط العرب غضباً وهزوا سيوفهم وها هم يتضامنون معها في نشاط عابر للدول، استقر أخيراً في الأردن.
عن غزة كررت كثيراً، قبل الحرب والطوفان، كلمات مزدوجة التأويل أيضاً خطيرة جداً كان يطبعها ويتمعّن فيها طويلاً، واعطت موقفا إنسانية من مستوطنة سديروت، فإنها مع ذلك لم تسلم. على أقل تقدير ستكون قد جهزت للمرحلة التالية.
ولكنه جعلها هي نفسها مؤشّراً على الصلات االخلفية، وإذا ثبت ما رآه، فإنّه المخفي الرهيب..
لم ينم تلك الليلة.
والحقيقة أنه كان راغباً في رؤيتها عن قُرب. يمكنه فهم الأشياء الأخرى دون الاقتراب منها، لكن شيئاً داخله كان يفور ويغلي.
إذ بينما كان يتتبع كل شيء لها، وبعد رصد كل محذور، لم يتأثر إلا لطفلة ترغب في ارتداء بلوزة صيفية منزوعة الأكمام تكشف عن كتفيها، لتحتفي بنفسها في السهرة كنجمة بينما يحتفون بها (كأنها تتعلّم الخطو وهم يشجعونها)، كما في مناسبة نشرت عنها الصحف!
ليس الا شرقياً احمق بدوره، ولولا تصادمه معها إذا اكترث بها، لكان من العُربان الأكثر استشاطة في الغضب والنخوة!
تنكّر وذهب قبل الموعد بنصف ساعة. لم يكن قد ابتدأوا النشاط التضامني بعد وإن ألصقوا يافطة على الزجاج الخارجي. تسلّل إلى أفضل طاولة خلفية يمكنه منها أن يطل دون لفت اهتمام أحد. اصطحب معه كتابه وطلب قهوة.
وحينما بدأوا يتجمعون افرادا وأزواجاً وجماعات، كان يتعرّف إلى شخوص مَن يمكنه التعرّف إليهم بعد مشاهدتهم السابقة في الميديا والانترنت والصحف.
لقد أخرج نفسه من المجال الرسمي، وتدبر أمره بالنشاط الجانبي.