د. ابراهيم احمد سمو
بمناسبة اليوم العالمي للمسرح – 27 مارس
يُجدد اليوم العالمي للمسرح في السابع والعشرين من مارس من كل عام تأكيده على أهمية هذا الفن العريق الذي ظل لقرون طويلة صوتًا للحق، ونافذة للحرية، ومنبرًا للإبداع والتعبير عن قضايا الشعوب. إن المسرح ليس مجرد وسيلة ترفيهية، بل هو فضاء للحوار والتفكير، حيث تتقاطع فيه السياسة بالفن، والمجتمع بالخيال، لخلق تجربة إنسانية فريدة تمنح المتلقي رؤية أعمق للعالم من حوله.
لطالما كان المسرح مرآة تعكس نبض المجتمع، يسلط الضوء على قضاياه بجرأة ووضوح، ويقدم للناس أفكارًا تحثهم على التفكير والتساؤل وحتى التمرد على المألوف. فمنذ أيام المسرح الإغريقي، حيث كان يُستخدم كأداة للتعبير عن هموم المجتمع، إلى العصر الحديث حيث أصبح منصة للنقاشات الجريئة حول العدالة والحرية والحقوق، ظل المسرح محتفظًا برسالته العميقة: أن يكون منبرًا للحقيقة، حتى وإن كان مغلفًا بالكوميديا أو التراجيديا.
المسرح في مواجهة التحديات
ورغم كل التحولات التي طرأت على المجتمعات، ظل المسرح صامدًا، يواجه التحديات ويعيد تشكيل نفسه بما يتناسب مع كل عصر. واليوم، يواجه المسرح تحديًا جديدًا يتمثل في العصر الرقمي والتكنولوجيا الحديثة. يرى البعض أن انتشار وسائل الترفيه الرقمية، مثل التلفزيون ومنصات البث عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، قد يؤثر سلبًا على المسرح، حيث بات الجمهور يفضل المحتوى السريع والمباشر. لكن الحقيقة أن المسرح لم يكن يومًا مجرد وسيلة للعرض فقط، بل هو تجربة حية تفاعلية لا يمكن استبدالها بمقاطع فيديو أو أفلام مسجلة.
إن سر قوة المسرح يكمن في حضوره المباشر، حيث يجتمع الممثلون والجمهور في فضاء مشترك، يتفاعلون سويًا ويخلقون لحظات استثنائية لا تتكرر. هذه العلاقة الديناميكية بين الخشبة والمقاعد تمنح المسرح طاقة لا يمكن لأي وسيلة ترفيه أخرى أن تضاهيها. فالممثل على المسرح لا يؤدي دوره فقط، بل يعيش اللحظة بكل تفاصيلها، ويشعر بتفاعل الجمهور في كل حركة ونبرة صوت، ما يخلق تجربة إنسانية فريدة لا تتحقق عبر الشاشات.
التكنولوجيا والمسرح: صراع أم تكامل؟
على الرغم من مخاوف البعض من تأثير التكنولوجيا على المسرح، إلا أن العلاقة بينهما ليست دائمًا صراعية، بل يمكن أن تكون تكاملية. فقد أصبحت التكنولوجيا اليوم أداة مهمة يمكن استخدامها لتعزيز العروض المسرحية، سواء من خلال الإضاءة الرقمية، أو المؤثرات الصوتية المتطورة، أو حتى استخدام تقنيات الواقع الافتراضي لإضافة أبعاد جديدة إلى العروض التقليدية. بل إن بعض المسرحيين بدأوا في دمج التكنولوجيا في الأداء نفسه، من خلال استخدام الشاشات التفاعلية أو العروض الهولوجرامية، ما يثبت أن المسرح ليس فنًا جامدًا، بل قادر دائمًا على التطور والتكيف مع مستجدات العصر.
وإذا كان البعض يظن أن المسرح قد يفقد أهميته في ظل تقدم التكنولوجيا، فإن الحقيقة تثبت عكس ذلك. فالتاريخ يعلمنا أن كل تطور تقني جديد كان يُعتقد في البداية أنه سيقضي على المسرح، من السينما إلى التلفزيون، لكنه لم يفعل، بل أصبح المسرح أكثر قوةً وتجددًا. واليوم، في عصر الإنترنت، يبقى المسرح بحاجة إلى الدعم والاهتمام، ليس لأنه مهدد بالزوال، بل لأنه ركيزة ثقافية لا يمكن استبدالها.
أهمية المسرح في بناء المجتمعات
المسرح ليس مجرد أداة ترفيهية، بل هو وسيلة للتغيير الاجتماعي والثقافي. عبر العصور، استخدم المسرح لتوعية الناس بقضاياهم، ومنح صوت للمهمشين، وتحدي السلطة عندما كانت الحاجة لذلك ماسة. فقد كان المسرح في العديد من الدول أداة للنضال السياسي، حيث استخدمه المبدعون لفضح الفساد، وانتقاد الظلم، وتعزيز قيم الحرية والديمقراطية.
وفي المجتمعات التي تعاني من القمع أو الرقابة، يصبح المسرح أحد آخر المساحات الحرة التي يمكن من خلالها التعبير عن الرأي. حتى عندما يُحاصر من قبل السلطة، يظل قادرًا على تمرير رسائله بأساليب رمزية وذكية، تجعله أداة مؤثرة وقوية في تشكيل الوعي الجماعي.
المسرح في كردستان والشرق الأوسط
في منطقتنا، ورغم التحديات الاقتصادية والسياسية، يظل المسرح قائمًا ومزدهرًا، سواء في القاعات أو في الشوارع. في كردستان، كما في بقية الشرق الأوسط، يواصل المسرحيون تقديم عروضهم رغم كل الظروف، مستلهمين من الواقع قصصًا تعبر عن آمال الناس وآلامهم. ورغم أن الدعم للمسرح قد يكون محدودًا، إلا أن الشغف بالفن هو ما يبقيه حيًا.
مسرح الشارع، على وجه الخصوص، أصبح وسيلة قوية للوصول إلى الجماهير التي قد لا تتمكن من دخول القاعات المسرحية. ولكنه ليس بديلاً عن المسرح التقليدي، بل مكمل له. فالمسرح الحقيقي هو ذلك الذي يجمع الناس حول قضية هامة، سواء كان ذلك في قاعة ضخمة أو في ساحة عامة.
ختامًا: المسرح باقٍ ما دام الإنسان موجودًا
في يوم المسرح العالمي، لا نطالب فقط بالدعم المالي للمسرح، ولا ندعو إلى تجاهله بحجة ضعف التمويل، بل نؤكد أن المسرح سيبقى مستمرًا، طالما كان هناك من يعتلي خشبته ليحمل رسالة الفن والحقيقة. المسرح ليس مجرد فن، بل هو جزء من النسيج الإنساني، ووسيلة لتذكيرنا بقيمتنا الحقيقية ككائنات تفكر وتحلم وتعبر.
إن العالم يتغير، والتكنولوجيا تتطور، ولكن المسرح باقٍ، لأن الإنسان سيظل دومًا بحاجة إلى منصة يروي من خلالها قصصه، ويعبر عن همومه، ويجد فيها صوته. وكما صمد المسرح لقرون طويلة، سيظل حيًا في قلوب عشاقه، الذين يدركون أنه ليس مجرد عرض يُشاهد، بل تجربة تُعاش.