الذكرى المئوية لصدور القانون الأساسي العراقي لسنة 1925: من انحرافات التجربة البرلمانية إلى تحديات دستور 2005
د. علي مهدي
بمناسبة الذكرى المئوية لصدور القانون الأساسي العراقي لعام 1925، الذي تمت المصادقة عليه بتاريخ 21 اذار 1925، يحق لنا التوقف عند الأثر الكبير الذي أحدثه هذا القانون على النظام السياسي في العراق، حيث شكل بداية لتطبيق النظام البرلماني في البلاد. ولكن رغم أن هذا النظام كان يُعتبر خطوة هامة نحو تأسيس دولة حديثة، إلا أن تجربته في العراق شهدت العديد من الانحرافات التي أثرت على استقراره وفاعليته. وقد أُعدّ العديد من البحوث والدراسات التي تناولت هذا الموضوع وحللت الأسباب التي أدت إلى فشل النظام البرلماني في العراق، وذلك بالتركيز على التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي واجهها النظام. وعليه، فمن المفيد مقارنة هذه التجربة بتجربة النظام البرلماني في العراق بعد صدور دستور 2005.
النظام البرلماني العراقي وأهدافه
عندما صدر القانون الأساسي العراقي في عام 1925، كان الهدف منه أن يكون خطوة نحو إرساء الديمقراطية البرلمانية في العراق، حيث تم فرض النظام البرلماني كأساس لتشكيل الحكومة وعلاقة البرلمان بالحكومة التنفيذية. وكان هذا القانون بمثابة أول دستور للبلاد بعد أن أصبح العراق تحت الانتداب البريطاني بموجب هذا القانون، وكان من المفترض أن يُنتخب البرلمان بشكل دوري، ويجب أن يتولى دورًا فاعلًا في الرقابة على عمل الحكومة، وأن تكون الحكومة مسؤولة أمام البرلمان.
إلا أن تطبيق النظام البرلماني في العراق لم يكن كما كان مأمولًا. فقد شهد هذا النظام عدة انحرافات عن النموذج البرلماني الذي استُورد من الدول الغربية، مما أدى إلى فشل النظام في تحقيق أهدافه، وخاصة في ظل التحديات الاجتماعية والاقتصادية.
الظروف الاجتماعية والاقتصادية في العراق وتأثيرها على تطبيق النظام البرلماني
قبل أن نبحث في أسباب انحراف النظام البرلماني في العراق، من المهم أن نفهم الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في العراق في ذلك الوقت. كان العراق في عام 1925 يعاني من اقتصاد زراعي ضعيف يعتمد على الزراعة التقليدية، وكان المجتمع العراقي ذا تركيبة إقطاعية حيث كان الأغنياء يملكون الأراضي ويهيمنون على الحياة الاقتصادية والسياسية. كما كانت الطبقة البورجوازية ضعيفة من الناحية الاقتصادية والسياسية، حيث كانت تقتصر على التجارة والبنوك، ولم يكن لها القدرة على تشكيل قاعدة سياسية حقيقية لدعم النظام البرلماني.
أما الطبقة السياسية في العراق فكانت مكونة أساسًا من العائلات الإقطاعية، والتي كان لها نفوذ كبير على الحكومة والمجتمع، بينما كانت الطبقة العمالية قليلة وغير منظمة بشكل جيد، مما أدى إلى ضعف التمثيل السياسي للطبقات المختلفة في البرلمان. ولذلك، كان النظام البرلماني لا يتناسب مع هذه البيئة الاجتماعية والاقتصادية، لأنه كان يتطلب بورجوازية قوية وأحزابًا سياسية حقيقية لإعطاء البرلمان دوره الفاعل في مراقبة الحكومة.
الانحرافات في تطبيق النظام البرلماني في العراق
رغم أن القانون الأساسي وضع الإطار النظري للنظام البرلماني في العراق، فإن التطبيق الفعلي لهذا النظام كان بعيدًا عن الطموحات. فقد كانت السلطة التنفيذية، ممثلة في شخص الملك، تمتلك النفوذ الأكبر، وكانت الحكومة تعمل بشكل أساسي تحت هيمنة الملك. وقد تجلت هذه الهيمنة في العديد من الممارسات السياسية، مثل تعيين الوزراء وتشكيل الحكومات، مما جعل البرلمان في كثير من الأحيان غير قادر على ممارسة دوره الرقابي أو حتى اتخاذ قرارات مؤثرة.
في الواقع، كان مجلس النواب العراقي في تلك الفترة ضعيفًا إلى حد بعيد، حيث لم يكن يمتلك القدرة على سحب الثقة من الحكومة أو التأثير في تشكيلها، وهو ما يُعد من المعايير الأساسية في النظام البرلماني. بل في كثير من الحالات كان البرلمان مجرد أداة للتصديق على قرارات الحكومة التي كانت تُصاغ بعيدًا عن الرقابة البرلمانية. على سبيل المثال، في بعض الأحيان كان الملك يقرر حل البرلمان قبل أن يكمل دورته، مما يعكس غياب الاستقلالية للبرلمان في ممارسة مهامه.
انعدام التعاون بين القوى السياسية
من أهم الأسباب التي أدت إلى انحراف النظام البرلماني في العراق كان ضعف الأحزاب السياسية والتنافس الداخلي بين القوى السياسية. فقد كانت الحياة السياسية في العراق في تلك الفترة تتسم بالانقسامات الحادة بين مختلف القوى، سواء بين الإقطاعيين أو بين القوى الوطنية الحديثة. هذا الصراع السياسي الداخلي جعل البرلمان مشلولًا في أداء دوره الفاعل في الرقابة على الحكومة.
ومع عدم وجود أحزاب سياسية قوية ومنظمة، لم يكن البرلمان في العراق قادرًا على ممارسة الرقابة اللازمة على الحكومة، كما لم يكن هناك حوار حقيقي بين القوى السياسية داخل البرلمان. في هذا السياق، يمكن القول إن الحكومة كانت تمارس سلطاتها بعيدًا عن أي نوع من المراجعة أو التوازن الذي يوفره البرلمان.
ضعف البورجوازية العراقية وعدم قدرتها على دعم النظام البرلماني
من العوامل التي ساهمت في فشل النظام البرلماني في العراق هو ضعف البورجوازية العراقية، ففي حين أن النظام البرلماني يحتاج إلى طبقة بورجوازية قوية لتمويل الأحزاب السياسية ودعم المشاريع الحكومية، كانت البورجوازية العراقية في تلك الفترة ضعيفة وغير قادرة على التأثير في السياسة بشكل كبير. كانت البورجوازية العراقية متمثلة في التجار وأصحاب البنوك، لكنهم لم يمتلكوا القاعدة الاجتماعية اللازمة لتشكيل حكومة فعالة أو حتى لتشكيل أحزاب سياسية قادرة على دعم النظام البرلماني.
في المقابل، كانت الطبقة الإقطاعية هي المسيطرة في العراق، وكان لها نفوذ سياسي كبير مما جعل من الصعب على أي حكومة تنفيذ سياسات اقتصادية حديثة أو بناء مؤسسات سياسية قوية قائمة على أساس النظام البرلماني.
نتائج انحراف النظام البرلماني في العراق
من النتائج الرئيسية لانحراف النظام البرلماني في العراق هو تركيز السلطة في يد الملك، فقد كان الملك يملك السلطة العليا في جميع القرارات السياسية والاقتصادية، بينما كان البرلمان في أغلب الأحيان مجرد صورة تمثل السلطة التشريعية دون أن تكون لها أي صلاحيات حقيقية. كما أن مجلس الوزراء كان تحت تأثير الملك بشكل كامل، حيث كانت قرارات الحكومة بحاجة إلى مصادقة الملك، مما أدى إلى تركيز السلطة في يده.
التجربة البرلمانية في العراق بعد 2005: احتمالات النجاح
أما فيما يتعلق بتجربة النظام البرلماني في العراق بعد دستور 2005، فقد كان يهدف إلى بناء دولة ديمقراطية قائمة على الانتخابات الحرة والسلطة المنتخبة من قبل الشعب، ولكن بالرغم من ذلك، فقد واجهت هذه التجربة تحديات مشابهة لتلك التي واجهت النظام البرلماني في العهد الملكي. فقد كان هناك غموض في تطبيق الفصل بين السلطات، والتحالفات الطائفية أدت إلى ضعف الرقابة البرلمانية، مما جعل من الصعب إقامة حكومة فعالة. وقد ظل البرلمان في ظل المحاصصة السياسية مجرّد أداة لتوزيع المناصب دون أن يكون له دور حقيقي في الرقابة أو التشريع.
ورغم أن دستور 2005 اعترف بمبدأ الفصل بين السلطات، فإن التطبيق العملي لهذه المبادئ كان ضعيفًا، مما ساهم في غياب الاستقرار السياسي ونمو الفساد، ويعكس هذا التحليل أن نجاح النظام البرلماني في العراق مرتبط بتعزيز المؤسسات السياسية وتطوير الحياة الحزبية بما يحقق الاستقلالية السياسية.
الخاتمة
إن تجربة العراق في تطبيق النظام البرلماني كانت مليئة بالتحديات والانحرافات التي جعلت هذا النظام بعيدًا عن نجاحاته التي حققتها بعض البلدان الغربية. ويعود ذلك إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي لم تكن مهيأة لاستقبال مثل هذا النظام، بالإضافة إلى الهيمنة الملكية على جميع المفاصل السياسية في فترة القانون الأساسي لعام 1925، وهيمنة التحالفات الطائفية بعد 2005 ومن خلال هذه التجارب، يمكن أن نتعلم كيفية تحسين النظام البرلماني في العراق بما يضمن تحقيق الاستقرار السياسي والتنمية الشاملة.