اعداد: عدنان رحمن
اصدار: 18- 3- 2025
عن دار الجواهري- بغداد.. بيروت.. دمشق صدرت الطبعة الاولى عن كتاب ( العشاء الاخير للطغاة) للاستاذ عباس لطيف، وفيه اكثر من مئتي عنوان، اخترنا لكم منها:
اولاً عن المرحوم سعید قزاز:
– ” منقذ بغداد……….. ينحدر سعيد قزاز من اسرة كوردية كريمة معروفة في محافظة السليمانية حيث ولد فيها عام ١٩٠٤، وكان والده محمد سعيد القزاز يعمل حرفياً يصنع ويبيع القماش المنسوج من خيوط القز. كان قد لفت الانتباه الى شخصيته المتميزة بالذكاء والحزم والكبرياء والايمان الفذ بتنفيذ القوانين بعيداً عن الاهواء او عوامل الضعف او التأثيرات الجانبية، ولعل احرج مرحلة في حياته حين عين متصرفاً ( محافظاً) للواء اربيل في نهاية الاربعينيات من القرن العشرين وكان عليه ان يبدي حزماً ما حدث في المنطقة من اضطراب سياسي، واستطاع بحزمه وحنكته ان يحتوي ذلك الفوران وقد خسر بعض سمعته في نظر ابناء جلدته من الكورد. بعد ان هدأت النفوس وخمدت اسباب الانتفاضة ادرك الجميع ان تعامله مع مجريات الحدث ومقترحاته كان لها الأثر في تصحيح مسارات التأزم. ومن يراجع اقواله وتصوراته حول المسألة الكوردية يجد فيها فهماً موضوعياً ومنظوراً وطنياً حيث لا يمكن للكورد إلا أن يكونوا عراقيين، فذلك هو ما تمليه قوانين التاريخ والجغرافية والقيم الوطنية العليا. وقد يتحدث بعضهم عن سعيد قزاز وسيرته بوصفه احد اقطاب الحكم الملكي لا سيما موقفه الحازم والمتشدد ازاء اضراب عمال شركة نفط البصرة، حيث تفاقم الوضع وكان الموقف يستدعي اجراءات حاسمة، ولعل حقيبة الداخلية هي الواجهة التي تتعامل مع الوقائع والاحداث بطريقة لا تدخل في آلياتها فلسفة وتوجهات الافكار السياسية والعقائدية في اجراءات امنية واحترازية قد تحتمل الخطأ والصواب، ولكنها يجب ان تمسك وتسيطر على الموقف حتى لو تتطلب الامر استخدام القوة، فالتهاون حتى في امور يسيرة- وكما اثبتت وقائع التاريخ قد يؤدي الى نتائج فادحة- ويمثل خرقاً في ( الساتر) الامني. وهناك مواقف اخرى وقد تؤخذ على سيرته لكنها لا تبتعد عن هذا التوصيف، بل ان حزمه جعله مقرباً من اهالي الموصل حين عيَّن متصرفاً عليها. لكن الموقف الذي لم يختلف عليه اثنان من اقصى اليسار الى اقصى اليمين من اقصى مناصريه ومن اقصى منتقديه ما سجل له من موقف ومأثرة وطنية كبيرة حين تصدى لفيضان ربيع ١٩٥٤ من ان يغرق بغداد. كان حازماً كعادته وتصرف بروح متفانية وابدى وطنية متناهية يستحق ان يقلد جراءها وساماً، لا ان توجه إليه الاهانات والكلمات النابية والاحكام الملفقة وهو يقف امام المحكمة العسكرية العليا الخاصة محكمة ( المهداوي) وحوله تتقافز الشعارات الفارغة وترمى الحبال وتتأجج هستيريا التصفيات الجسدية السريعة. ولعّل اعدام سعيد قزاز يُعد ابرز اخطاء هذه المحكمة. ومن مفارقات القدر ان يكون هذا الرجل من بين القلة النادرة التي توقعت سقوط الحكم الملكي، فقد اشّرَ الكثير من المواقف، وكانت له خلافاته مع صنّاع القرار وقتذاك… مسيرة سعيد قزاز مغرية في التوغل بالتفاصيل والحوادث لكن فسحة النشر تجعلنا مكبلين كما كبلت يداه في قفص الاتهام الذي لا تعرف حيثياته.. ولعلّ ذروة الرُقي والكبرياء والشجاعة تجلب في دفاعه الفريد المستميت والمذهل وكأنه اراد ان يختم المشهد ببطولة الموقف وبلاغة القول وحدة الجرأة وساحة المحكمة اقسى من ساحة الحرب وكان يمكنه المناورة والتسويف او التخاذل حتى ان الكثير كانوا متعاطفين معه فقد خاطب سعيد قزاز رئيس المحكمة واعضاءها بكلام واضح وبليغ بعد اصدار حكم الاعدام عليه قائلاً: ( إنني اقف الآن وأرى الموت مني قاب قوسين او ادنى ولا ترهبني المشنقة. وعندما اصعد عليها سأرى الكثيرين ممن لا يستحقون الحياة تحت اقدامي). وقد حاول فؤاد عارف احد الضباط الاحرار ان يبعد حبل المشنقة عن عنقه، ولكنه التف بقسوة وازهقت روحه في فجر العشرين من ايلول ١٩٥٩”.
اما الشخصية الثانية فهو المرحوم عبد الرحمن البزاز، التي ورد في جزء منها:
– ” رجل القانون الذي ازاحته النخب العسكرية!: عبد الرحمن البزاز و دَوره الفكري والسياسي في العراق……. وفق نظرة تأملية للتاريخ يمكن اكتشاف حقيقة مفادها ان الرجال الاستثنائيين غالباً ما يواجهون ظرفاً استثنائياً والموازنة بين الاستثناء والقاعدة لا يمكن ان تنتج معادلة متكاملة… واستكمالاً لهذا الاستطراد يمكن القول، ان هناك رجلاً يبحث عن دَور مثلما نجد دَوراً يبحث عن رجل. تتكرر تراجيديا البطل الايجابي الذي تبتلعه رداءة الظروف التاريخية فيخسر التاريخ صولة متقدمة. تداعت في ذهني هذه الافكار وانا استعيد سيرة الشخصية الوطنية المعروفة عبد الرحمن البزاز، تلك الشخصية التي مزجت بين الثقافة القانونية والعمل في الميدان السياسي. فلقد انطوت شخصيته على خصائص جعلته يستحق المكانة التي حظي بها وعززت من دوره في الحياة السياسية منذ تأسيسه لنادٍ فكري يهتم بشؤون وآفاق السياسة والفكر، ولكونه استاذاً متخصصاً بالقانون الدستوري فقد سعى في كل مراحل عمله السياسي الى تأسيس دولة عراقية موحدة قائمة على أسس قانونية مدنية وديمقراطية، ولم يتوقف عند هذا التوجه بالرغم من اصطدامه بالواقع السياسي المتشابك والمضطرب والملتبس لا سيما بعد انقلاب ۸ شباط ١٩٦٣ حتى استعادة السلطة من قبل النخب العسكرية ومحترفي الانقلابات الارتدادية في ١٧ تموز ١٩٦٨. فالعراق ومن المحزن قد تحول في عهده الجمهوري الى احتراب بين النخب العسكرية وفق سيناريو طافح بالخيانات والتناقضات والمؤامرات واصبح الشعب واحزابه مجرد خلفية تشهد تداعيات هذا الايقاع الدموي. لقد كان البزاز رئيساً للوزراء في منتصف الستينيات ورجلاً مدنياً، لذا تطلعت اليه الانظار لارساء نظام برلماني يرتكز على ثوابت المجتمع المدني وما يتبعها من اجراء انتخابات حرّة واقامة دولة القانون والمؤسسات وتداول السلطة سلمياً والخلاص من مرحلة التكتلات العسكرية وصراعاتها الانشطارية غير المجدية التي قادت العراق الــــــــــى ( كونغو) وساحة لصراع الرُتب من مشير الى مهيب ومن قائد أوحد الى بطل الضرورة ولكن البزاز ظهر في مرحلة هشة تعاني اعباء وتركات الاصطراع العسكرتاري ولم يجد فرصة لترجمة افكاره ورؤاه السياسية. وحين لقي الرئيس الاسبق عبد السلام محمد عارف مصرعه في حادث سقوط الطائرة في ۱۳ نيسان ١٩٦٦ ونتيجة للفراغ السياسي الذي اعقب الحادث جرت منافسة على الكرسي الشاغر بين عبد الرحمن البزاز وعبد العزيز العقيلي وزير الدفاع وعبد الرحمن محمد عارف رئيس اركان الجيش، وكانت النتيجة او المفارقة التاريخية بأن يتوّج عبد الرحمن عارف رئيساً للبلاد بعد ان فرضه العسكر المتحكمون بالخيوط الخفية وكواليس المشهد السياسي وتحديداً من قبل سعيد صليبي قائد قوات بغداد. هذا الرجل العسكري البحت المتخصص بالضبط والقمع وتطبيق الفرضيات والتمارين العسكرية. وقد حظي بمكانة مرموقة لدى عبد السلام عارف لجوره ففي احباط المحاولة الانقلابية التي قام بها عارف عبد الرزاق احد النخب العسكرية المولعة بلعبة الانقلابات والحوار بالدبابة واحتلال الاذاعة والمرسلات. وحين شكّل البزاز وزارته الثانية في عهد عبد الرحمن عارف طرح بجرأة توجهاً يدعو الى العودة للحكم المدني ووضع دستور دائم واجراء انتخابات حرّة، لكن وزارته جوبهت برصد ومعارضة العساكر من جديد ووجدت نفسها ازاء مشروع اقصاء وتهميش لها ممّا دعا الرجل الى الاستقالة، فلقد ادرك بحسه السياسي المتزن ( يغرد خارج السرب الخاكي)، وباختفاء البزاز ونهايته المأساوية فقد العراق رجلاً كان مقدراً له ان يترك اثراً ايجابياً ونقلة سياسية لولا تزاحم الرتب العسكرية التي اكتظ بها المشهد. بعد هذه القراءة التاريخية والتحليلية اتناول كتاباً صدر عن سيره ودور عبد الرحمن البزاز. لقد انطوت شخصية عبد الرحمن البزاز على سمات وخصائص جعلته يستحق المكانة التي حظي بها وعززت من دَوره في الحياة السياسية منذ تاسيسه لناد فكري يهتم بالفكر والسياسة، وكان يميل الى الافكار القومية ووقف وانصاره مواقف ايجابية من كل القضايا والاحداث والمنعطفات، ولكونه استاذاً مُتخصصاً بالقانون الدستوري فقد سعى الى تأسيس دولة موحدة قائمة على أسس قانونية مدنية وديمقراطية. على الرغم من ان طروحاته وتطلعاته اصطدمت بالواقع السياسي المتشابك والمضطرب لاسيما بعد انقلاب ۸ شباط ١٩٦٣ حتى استعادة البعثيين السلطة في انقلابهم الثاني وبالتعاون مع رجالات الحكم العارفي الهش فكان انقلاب ۱۷ تموز ١٩٦٨ ولاهمية هذه الشخصية سياسياً وفكرياً وتاريخياً صدر كتاب موسوم ( عبد الرحمن البزاز ودَوره الفكري والسياسي في العراق حتى عام ١٩٦٨) وذلك عن مكتبة اليقظة العربية. والملاحظة الأولى والمركزية حول جهد المؤلف الدكتور محمد كريم مهدي المشهداني انه استغرق في اضفاء الهالة القومية والدينية على افكار وطروحات البزاز، في حين كان الأجدر والاجدى التركيز على جهوده السياسية وايمانه بالقانون الدستوري وسعيه الى تشكيل حكومة مدنية ومعارضته للتوجه العسكري في الاستحواذ على مقاليد الحكم وقد كلفته مواقفه الجريئة والمبدئية الكثير من العناء والاعتقال والمحاكمة والنفي، بل جعلته يخسر منصبه كرئيس للوزراء. ولا ادري ما معنى ان يقول المؤلف بان البزاز ( قد دعا الى الاهتمام باللغة العربية الفصحى ونبّه على اضرار الدعوة الى العامية)، ونحن نتفق مع المؤلف على اهمية هذا الجانب واضراره الانعزالية ومظاهره المتخلفة، لكن البزاز لم يكن داعية في اصلاح شأن اللغة او متخصصاً في فقه وشؤون العربية، ودعوته هي تحصيل حاصل او جزئية ضمن توجهاته العامة”.