حلبجة: ذاكرة الكُورد النازفة وشاهد على التاريخ

د. ابراهيم احمد سمو

في صبيحة يومٍ ربيعي، حيث كان أهل حلبجة يمارسون حياتهم اليومية كالمعتاد، لم يكن أحد يتوقع أن هذه المدينة ستصبح بعد ساعات قليلة مقبرةً مفتوحة لأهلها. الأطفال يلعبون في أزقتها، بعض الطرقات كانت مرصوفة، بينما أخرى بقيت ترابية، والعمال منشغلون بأعمالهم، يكافحون من أجل لقمة العيش الحلال. الأمهات تحتضن أطفالهن، والرضّع يرضعون في سكينة من صدور أمهاتهم، بينما كانت امرأةٌ تترقب عودة زوجها، وطفلٌ ينتظر بفارغ الصبر انتهاء حصته الدراسية ليعود مسرعًا إلى البيت حيث تنتظره أمه وأصدقاؤه للعب.

في زاوية أخرى من المدينة، كان الشيوخ يلعبون الدومينو في المقاهي، والأصوات تعلو مع ضحكات الفائزين وهم يجمعون أكياس الجوز واللبن الطازج الذي يفيض في هذا الموسم. الجميع كان غارقًا في لحظات صفاء، تحت سماءٍ نقية، ينتظر الغد بكل أمل، دون أن يدرك أن الغد لن يأتي لهم أبدًا.

في ظهيرة 16 / آذار/1988، انقلبت الحياة إلى جحيم. فجأة، ساد صمت الموت، وتحولت السماء إلى لونٍ أصفر قاتم، في إشارة إلى كارثة قادمة. الطائرات العراقية أفرغت حمولتها من الغازات الكيميائية القاتلة، وانتشرت الغازات السامة في شوارع المدينة وأزقتها، لتقضي على الآلاف في دقائق معدودة.

تحولت الأجساد إلى جثث متناثرة في الطرقات، الأطفال الذين كانوا يلعبون قبل قليل سقطوا أرضًا بلا حراك، وكأنهم في نومٍ أبدي. الأمهات اللواتي كنّ يحتضنَّ صغارهن غدون جثثًا متلاصقة عند الأبواب، والجدّ الذي حاول حماية حفيده غادر الحياة وهو يعانقه. تحولت المدينة إلى مقبرة صامتة، لا صوت فيها سوى همس الموت.
لم يكن ذلك مجرد قصف عادي، بل كان هيروشيما الكُورد، الجريمة الأكبر بحق شعبٍ لم يكن يحمل السلاح، ولم يكن سوى ضحية لصراعات سياسية لا ترحم. كان ذلك الهجوم الكيميائي هو الأكبر في الشرق الأوسط، والمجزرة التي ستظل محفورة في ذاكرة الكُورد والعالم، تمامًا كما بقيت مآسي الحرب العالمية الثانية شاهدة على وحشية البشر.

في تلك اللحظة، لم يكن هناك إعلامٌ يروي المأساة، ولا فضائيات تنقل صور الموت، بل كان الصمت سيد المشهد، والخذلان هو الموقف الدولي تجاه مدينةٍ اختنقت بصمتٍ مطبق. كان العالم يتفرج، بينما كانت حلبجة تودّع أبناءها بلا وداع.
أكثر من 5000 شخص قُتلوا في الهجوم الكيميائي، وآلاف آخرون أصيبوا، ليظلوا يعانون آثار السموم لسنوات طويلة. لكن رغم هذه المجزرة، لم تنكسر إرادة الكُورد، بل تحولت حلبجة إلى رمزٍ للصمود، وأصبحت نقطة انطلاق جديدة في مسيرة النضال الكوردي.

لم يكن ذلك الهجوم معزولًا عن حملة الأنفال، التي راح ضحيتها أكثر من 182,000 كُردي في إبادة جماعية حاولت محو الكُورد من الوجود. لكن كما هو الحال في كل مراحل التاريخ، الشعوب لا تموت بالمجازر، بل تصنع من دمائها جسورًا نحو المستقبل.
اليوم، وبعد 37 عامًا من المجزرة، أصبحت حلبجة شاهدًا عالميًا على الوحشية التي تعرض لها الكُورد. لم يعد بالإمكان إنكار الحقيقة، ولم يعد بالإمكان طمس صوت الضحايا. فقد تحولت المأساة إلى قضية دولية، وساهمت في تعزيز مكانة الكُورد على الساحة السياسية، ليصبحوا اليوم قوةً يُحسب لها حساب، وإقليمًا معترفًا به دستوريًا، بعد عقود من النضال والتضحيات.
ورغم الألم، لم تتوقف حلبجة عن الحياة، فالأطفال الذين نجوا من المجزرة عادوا اليوم ليضحكوا من جديد، والشوارع التي امتلأت يومًا بالجثث، أصبحت تعجّ بالحياة. وكما قالوا قديمًا: “الدماء التي تُراق من أجل الحرية، لا تذهب هباءً”، فإن دماء حلبجة لم تكن إلا وقودًا لمسيرة الحرية، وشاهدًا خالدًا على صمود الكُورد في وجه الظلم.

حلبجة… لن ننساكِ أبدًا

قد يعجبك ايضا