پ. د ابراهيم احمد سمو
شتّان بين آذارنا الحكم الذاتي و بيان اذار التاريخي في العراق عام 1970 وآذار سوريا، ففي كل مرة يُطرح فيها تشبيه بين التجربتين، يتّضح أنَّ الفارق شاسع. ما بُني هنا في كوردستان يختلف جذريًا عما بُني هناك. فبينما كان اتفاق آذار في العراق عام 1970 نقطة تحوّل سياسية كبرى، يأتي الاتفاقُ الأخيرُ في سوريا كورقة بيضاء تحوي ثماني نقاط غامضة، باستثناء نقطة واحدة ذات تفسير مرن، تتعلق بتشكيل لجان حتى نهاية 2025. لكن جوهر المسألة يكمن في ميزان القوى: إن قويت الدولة السورية، ستتنصل عن الاتفاق وتلغيه من الأساس، وإن ضعفت، فستبقى بنوده قائمة، ما يعني أن المستفيد الأول والأخير هو الدولة السورية، وليس الكُورد الخاضعين للإقصاء في بلدهم المسمى سوريا.
ميزان القوى والاتفاقات الهشة
التاريخ يعلمنا أن الاتفاقيات السياسية غالبًا ما تكون انعكاسًا لميزان القوى في لحظة معينة. ففي حالة الكُورد في سوريا، يبدو أن الاتفاق الحالي جاء نتيجة لظروف إقليمية ودولية معقدة، وليس نتيجة لحل جذري للقضية الكُوردية. فالدولة السورية، التي ما زالت تعاني من آثار الحرب الأهلية، قد وجدت في هذا الاتفاق وسيلة لاستعادة السيطرة على المناطق الكُوردية دون منح تنازلات جوهرية. وهذا ما يجعل الاتفاق هشًا وعرضة للانهيار في أي لحظة، خاصة إذا تغيرت الظروف السياسية أو العسكرية.
دور الولايات المتحدة: الضامن أم العائق؟
مع ذلك، نحن كمتابعين للشأن الكُوردى نؤمن بأن السلام أفضل من الحرب، بل إن وجود طرف ثالث ضامن للاتفاق يُعدّ ضمانة أكثر استقرارًا من كونه مجرد تفاهم بين طرفين متصارعين. وهنا يبرز دور الولايات المتحدة بوصفها الوسيط، بحكم وجودها العسكري والسياسي في المنطقة. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا لو انسحبت أمريكا أو تخلّت عن دعمها للكُورد هناك؟ هل سيبقى هذا الاتفاق قائمًا أم سيكون مصيره كمصير اتفاقية آذار 1970 في العراق، التي انقلب عليها النظام ؟
التأريخ يعيد نفسه بأشكال مختلفة. حين قويت الدولة العراقية في السبعينيات، تنصلت عن التزاماتها تجاه الكُورد، عندما ضعفت في منتصف السبعينيات، ذهبت إلى اتفاقية الجزائر عام 1975، وقدّمت نصف شط العرب لإيران مقابل وقف دعمها للثورة الكُوردية . ومع أن هذا الاتفاق كان وصمة عار في تأريخ النظام آنذاك، إلا أن اتفاق آذار ظلّ ركيزة أساسية، ساعدت في إنشاء مؤسسات إدارية كوردية ظلت قائمة حتى اندلاع انتفاضة 1991، التي مكّنت الكُورد من استعادة زمام الأمور، بفضل ما أرساه اتفاق 1970 من بنى تحتية سياسية وإدارية.
ماذا عن الاتفاق الكوردي في سوريا؟
ما تزال الصورة غير مكتملة، والمشهد لم يتضح بعد، ومع ذلك، نلمس مؤشرات لا تبعث على التفاؤل التام. فالنقاط الثمانية الواردة في الاتفاق تحمل بعض الإيجابيات، لكنها لا تضمن مستقبلًا واضحًا. والأهم من ذلك، أن جوهر القضية الكُوردية في سوريا لم يبرز في الاتفاق، إذ لم يُطرح الكُرد كأمة ذات حقوق قومية، بل كـ”مجتمع كردي”، ما يعني أن الإنجاز الوحيد الذي يقدّمه الاتفاق هو الاعتراف بالمواطنة، وليس بالهوية القومية. وهذا أمر مقلق بالنسبة لي ككاتب، منشغل بالبحث عن أي ثغرة يمكن من خلالها تعزيز المكتسبات الكُوردية.
منذ يومين نفكر إلى أين سيأخذنا آذار الكورد في سوريا. أين ذهبت شعارات الوطن والقومية والاستقلال؟ كل هذه التساؤلات تقف في صفّ، بينما في الصف الآخر يقف الاتفاق، الذي يصفه بعض الموقعين عليه بأنه “جيد، إن لم تَخُنّا أمريكا”. هذه الجملة تحديدًا تبعث على القلق، لأن تجاربنا هنا في إقليم كردستان علّمتنا أن الخوف من المجهول في ظل السياسة المتذبذبة للولايات المتحدة و التعامل غير المعقول من الحكومات المتتالية لحد الان ليس بلا مبرر.و المبرر والمسوغ هو الحقد لا اقل و المصالح الدولية
بناء المؤسسات والرؤية الاستراتيجية
إن أي اتفاق لا يستند إلى ضمانات قوية يبقى هشًا، ويمكن أن يكون مجرد استراحة مؤقتة قبل مرحلة جديدة من الصراع. لذلك، لا يمكن للكُورد في سوريا أن يعتمدوا بشكل كامل على نوايا الأطراف الأخرى، بل يجب أن يكون هناك سعي جاد لتعزيز المكتسبات، سواء من خلال بناء المؤسسات القادرة على الصمود، أو من خلال تطوير رؤية استراتيجية واضحة للمستقبل. فالمؤسسات القوية هي التي تضمن استمرارية الحقوق المكتسبة، حتى في غياب الضمانات الخارجية.
ثقافة السلام وبناء الوعي
ربما نقول: إن ما حدث قد حدث، لكن الأهم أن نتمسّك بمبدأ السلام، ليس فقط للكُورد في سوريا، بل لنا أيضًا هنا، وأن نُدرك أن بناء الوعي هو السبيل الوحيد لضمان حقوقنا، بغضّ النظر عن الاتفاقات المؤقتة. الأوضاع السياسية متغيرة، لكن الأهم هو أن يكون الكُورد قادرين على حماية مصالحهم، سواء بقيت أمريكا أم رحلت، وسواء احترمت الدولة السورية الاتفاق أم تنصلت منه.
الخلاصة: المستقبل بين اليقين و المجهول
في النهاية، يبقى مستقبل الكُورد في سوريا بين اليقين والمجهول. اليقين يكمن في أن الكورد لن يتخلوا عن مطالبهم المشروعة، والمجهول يكمن في كيفية تعامل الأطراف الإقليمية والدولية مع هذه المطالب. الاتفاق الحالي قد يكون خطوة أولى، لكنه ليس نهاية المطاف. فالقضية الكُوردية تحتاج إلى حلول جذرية تعترف بالهوية القومية وتضمن حقوقًا سياسية وثقافية واقتصادية كاملة. وهذا ما يجب أن يكون محور أي مفاوضات حالية أو مستقبلية.