محمود صالح شيرواني
نعم، كل القراء يتفقون على أن الكتب ليست مجرد أوراق مُلصقة بين دفتين، ولا هي مجرد حروف مرتّبة في سلاسل لغوية، وكم قرأنا وسمعنا مثل هذه العبارة. الكتب أكبر من هذا، فهي كائنات حيّة تنبض بالمعاني والأحاسيس والمشاعر، تهمس، للقارئ، بالحكمة والموعظة، وتُصارع الأفكار وتنتجها، تقبلها وترفضها. ولكنها، في النهاية، ليست سوى مرآة تعكس ما نحمله في دواخلنا من الوعي. إن أصغيت لها، فلن تُسمعك إلا ما تريد أنت سماعه، ولن تُريك إلا ما تريد أنت رؤيته. هي لا تُجبرك على شيء، بل تمنحك خياراتٍ لا نهائية. ولكنك أنت من يختار الطريق، هل تستجيب لها لتزداد وعياً، أم تستجيب لها بشكل سلبي فتقع ضحيتها!.
الكتب لا تُمارس السيطرة عليك إلا إذا سمحت لها بذلك. إن أرخيت لها عنانك القرائي، وأصبحت عبداً لأفكارها دون تمحيص، فقد تخونك، أو أنت تخون نفسك معها. ولكنها ليست خيانة بالمعنى المباشر، بل هي خيانة لأنك سمحت لنفسك بأن تفقد بوصلتك القرائية، وهنا أعني منهجيتك الواعية لفعل القراءة. والقراءة ليست طاعة عمياء، بل هي حوارٌ حر بينك وبين الأفكار. إن تحوّلت القراءة إلى مجرد “سمعاً وطاعة”، فقد فقدت قيمتها، وفقدتَ أنت غايتك منها. غاية الوعي.
الغاية النهائية من القراءة ليست تجميع المعلومات، ولا التباهي بالمعرفة، بل هي تحرير العقل من السلطات التي تقلل من دوره وتقيده بقيود وهمية أو غير وهمية، مصطنعة ولغايات شريرة. فكل شيء يؤدي إلى تقييد حرية العقل شيء يخالف مصالح وخيرية الإنسان والغاية من وجوده، هذا الإنسان الذي نزلت عليه كلمة “اقرأ” بشكلها المعمم لقراءة كل ما في الوجود. والغاية هي أن تترك لوعيك مساحة ليتنفّس، ليتفكّر، ليرفض، ليُعيد التشكيل، وليبتكر. القراءة الجيدة هي التي تمنحك الحرية، لا التي تُقيّدك. والكتاب الجيد هو الذي يُحفّزك على التساؤل، لا الذي يُلزمك بالإجابات الجاهزة.
ولكن، كيف نعرف الكتاب الجيد من الزائف؟ كيف نُميّز بين الحكمة والأباطيل؟ الجواب بسيط: الإصغاء الجيد. القارئ الذكي هو من يقرأ بعينين ناقدتين، لا بعين واحدة مُغلقة. هو من يُصغي بتركيز، ولكنّه لا يخشى أن يقول: “هنا أختلف” و “هنا سأعيد النظر مرة أخرى”. الكتاب لا يُفضح زيفه إلا أمام قارئٍ واعٍ، ولا يُكشف تآمره إلا أمام عقلٍ يقظ. القراءة ليست تلقيناً، بل هي عملية تفاعلية تحتاج إلى ذكاءٍ عميق.
لذا، قبل أن تغوص في بحر الكتب، اسأل نفسك: لماذا أقرأ؟ إن وجدت الإجابة، فلن تخاف من الإصغاء للكتب. لأنك ستكون قارئاً حرّاً، واعياً، قادراً على تمييز الجواهر من الزيف. والكتب، في النهاية، لا تخون قارئيها. بل هي تمنحك ما تستحق، وفقاً لما تُقدّمه لها من إصغاءٍ ونقد ووعي.
فليكن حوارك مع الكتب حواراً حرّاً، وليكن إصغاؤك لها إصغاءً ذكياً. لأن القراءة، في جوهرها، هي رحلة نحو تحرير العقل، وليس تقييده وأسره.