د. ابراهيم احمد سمو
يُعَدُّ شهر آذار محطة زاخرة بالإنجازات والانكسارات، فقد شهد تحولات كبرى في التاريخ الكوردي، من الحكم الذاتي إلى الفيدرالية، مرورًا بالانتفاضة، وصولًا إلى الحلم المؤجل بإقامة الدولة. كان هذا الشهر دومًا مسرحًا للأحداث المصيرية، حيث امتزجت فيه ملامح الصراع والتفاوض، الانتصارات والنكسات، وإبرام الاتفاقات ثم التنصل منها.
ويُعَدُّ الحادي عشر من آذار يومًا مفصليًا في مسيرة النضال الكوردي، إذ شهد اتفاقًا تاريخيًا منح الكورد حكمًا ذاتيًا في العراق، وهو اعتراف شكّل تتويجًا لعقود من النضال المستميت من أجل البقاء، ليس كأفراد فحسب، بل كشعب يسعى إلى نيل حقوقه المشروعة. لقد مثّل الاتفاق خطوة فارقة في تاريخ القضية الكوردية، حيث أُقرَّ لأول مرة بحقوق الكورد ضمن إطار الدولة العراقية، وكان بمثابة بارقة أمل لتأسيس كيان إداري خاص بهم. ومع ذلك، فقد شاب هذا الاتفاق الكثير من التعقيدات والمراوغات السياسية التي أفضت لاحقًا إلى انهياره.
في الوقت الذي كان فيه الكورد يحتفلون بالحكم الذاتي ويؤسسون مجالسهم الإدارية، كانت تُحاك في الخفاء مخططات تهدف إلى تصفية القيادات الكوردية. لم يكن النظام العراقي حينها صادقًا في نواياه، بل كان يُضمر الغدر، مستغلًا الاتفاق كتكتيك مرحلي لكسب الوقت وإضعاف الثورة. ومنذ اللحظة الأولى، ساور الكورد الشك في أن الاتفاق ليس سوى وسيلة مؤقتة من قبل الحكومة المركزية لامتصاص زخم الثورة الكوردية، وهو ما تأكد لاحقًا حين بدأ النظام بالمماطلة في تنفيذ بنوده، مما أدى إلى انهياره بعد بضع سنوات.
ورغم هذه التحديات، فإن الاتفاق كان مكسبًا سياسيًا مهمًا، إذ وضع اللبنة الأولى لمسيرة الحقوق الكوردية في العراق، وأصبح مرجعًا للمفاوضات المستقبلية، حتى وإن لم يُحقق جميع التطلعات. كما شكّل تجربة سياسية جديدة للكورد في إدارة شؤونهم ضمن إطار الدولة، وأسهم في تطوير مؤسساتهم السياسية والإدارية. وأضفى الاتفاق بعدًا قانونيًا على المطالب الكوردية، ما جعل أي مفاوضات لاحقة تستند إلى أسس واضحة بدلًا من البدء من نقطة الصفر.
لقد شكّل الاتفاق أرضية لانطلاق الكورد نحو مطالب أوسع، بدءًا من الحكم الذاتي عام 1970 إلى الفيدرالية بعد سقوط النظام العراقي في عام 2003. ورغم فشل المفاوضات في عام 1991 وفي مراحل أخرى، ظلت القيادة الكوردية، المتجسدة في نهج البارزاني، مؤمنة بأن الحوار هو السبيل الأمثل لحل القضايا العالقة. فلم يكن الهدف الانتصار على الخصوم، بل الوصول إلى حلول تحفظ ماء وجه جميع الأطراف، بحيث يكون الجميع رابحين في أي اتفاق يتم التوصل إليه.
لقد أثبت التاريخ أن اتفاق الحادي عشر من آذار لم يكن نهاية المطاف، بل خطوة تأسيسية بُنيت عليها تطورات سياسية لاحقة. ورغم الانتكاسات، فقد مكّن الكورد من ترسيخ وجودهم السياسي والإداري، كما رسّخ مبادئ التفاوض السلمي كخيار استراتيجي. ففي ظل هذا الاتفاق تحققت بعض المكتسبات، غير أن كثيرًا من الحقوق ظلت مؤجلة. ولا تزال آثار تلك المرحلة حاضرة حتى اليوم، إذ لا تزال قضية الشهداء الذين سقطوا آنذاك موضع نقاش مستمر، وتستمر المطالبات بإنصافهم وإقرار حقوقهم بعد استكمال الإحصاءات الدقيقة.
ورغم انهيار الاتفاق لاحقًا، فإنه مهّد لاعتراف أوسع بالقضية الكوردية على المستويين الإقليمي والدولي. فلأول مرة بات للكورد إطار قانوني يحدد وضعهم داخل الدولة العراقية، مما أتاح المجال لمفاوضات جديدة في العقود اللاحقة. ومع اندلاع الانتفاضة الكوردية عام 1991، كان الاتفاق أحد المرجعيات التي استند إليها الكورد في مطالبهم بالحكم الذاتي الأوسع، وصولًا إلى الفيدرالية ضمن عراق ما بعد 2003 ودستور شامل للجميع.
إن الحادي عشر من آذار لم يكن مجرد وثيقة اتفاق، بل كان إعلانًا لمرحلة جديدة من النضال السياسي الكوردي، أثبتت فيها القيادة الكوردية قدرتها على انتزاع الحقوق عبر المفاوضات، دون التخلي عن الخيار الثوري عند الضرورة. كان الاتفاق تتويجًا لسنوات من الكفاح، لكنه لم يكن نهاية الطريق، بل بداية لمسيرة طويلة من المطالبة بالحقوق وتطوير التجربة السياسية الكوردية.
وهكذا، وعلى الرغم من أن الاتفاق لم يُحقق كل طموحات الكورد، إلا أنه مهّد الطريق لإنجازات أكبر، وترك بصمته في مسار القضية الكوردية، ليبقى الحادي عشر من آذار يومًا خالدًا في الذاكرة النضالية، وشاهدًا على أن الحقوق تُنتزع بالمثابرة، وأن كل خطوة، مهما بدت متواضعة، يمكن أن تكون أساسًا لمستقبل أكثر إشراقًا.