دور الثقافة المجتمعية في ترسيخ تلاحم السكان وبناء الدولة

 

متابعة ـ التآخي

تؤدي الثقافة المجتمعية دورا محوريا في تماسك المجتمع وبناء الدولة، فهي بمنزلة الأساس الذي يقوم عليه الكيان الوطني، وتؤثر في شتى جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

 و تبرز أهمية الثقافة المجتمعية في بناء الدولة، في  تعزيز الهوية الوطنية، اذ  تشكل الثقافة المشتركة، بما في ذلك اللغة والتاريخ والعادات والتقاليد، عنصراً أساسياً في بناء الهوية الوطنية، التي تعزز الانتماء والولاء للدولة.

 وتساعد الهوية الوطنية المشتركة على توحيد أفراد المجتمع وتجاوز الانقسامات العرقية والدينية والاجتماعية و ترسيخ القيم والمبادئ، اذ تؤدي الثقافة دوراً في ترسيخ القيم والمبادئ التي يقوم عليها النظام السياسي، مثل الديمقراطية والعدالة والمساواة.

وتساعد القيم المشتركة على توجيه سلوك الأفراد والمؤسسات، وتعزيز الحكم الرشيد، و تعزيز المشاركة السياسية، اذ تشجع الثقافة المجتمعية على المشاركة السياسية الفاعلة، بتعزيز الوعي السياسي وتنمية الحس بالمسؤولية، و تساعد المشاركة السياسية على ضمان تمثيل مصالح جميع فئات المجتمع، وتعزيز الاستقرار السياسي.

وتؤدي الثقافة دوراً في تحقيق التنمية الاقتصادية، عن طريق تعزيز قيم العمل والابتكار والإبداع، و تساعد على خلق بيئة مواتية للاستثمار والتنمية الاقتصادية المستدامة؛ وتسهم الثقافة في تعزيز التماسك الاجتماعي، بتقوية الروابط بين أفراد المجتمع وتخفيف حدة الصراعات، وبالنتيجة يساعد التماسك الاجتماعي على بناء مجتمع متماسك وقوي، قادر على مواجهة التحديات.

و يمكن للثقافة أن تكون أداة قوية لمواجهة التحديات التي تواجه الدولة، مثل التطرف والإرهاب والتغيرات المناخية، و تساعد على تعزيز التسامح والحوار والتفاهم، ونبذ العنف والكراهية.

ومن الأمثلة على تأثير الثقافة المجتمعية، ان الدول التي تتمتع بثقافة ديمقراطية راسخة، تكون فيها المشاركة السياسية عالية، وتكون المؤسسات الحكومية أكثر استجابة لاحتياجات السكان؛ و في الدول التي تتمتع بثقافة عمل قوية، يكون الاقتصاد أكثر إنتاجية، وتكون معدلات البطالة منخفضة.

 

 

في الدول التي تتمتع بثقافة التسامح، تكون العلاقات بين الجماعات الدينية والعرقية أكثر انسجاماً، وبشكل عام، يمكن القول إن الثقافة المجتمعية هي عنصر أساسي في بناء الدولة الحديثة، ويجب على الحكومات والمجتمعات المدنية العمل على تعزيز الثقافة الإيجابية التي تدعم قيم المواطنة والمشاركة والتنمية.

 

ثقافة التسامح ودورها

تؤدي ثقافة التسامح رئيسا في تعزيز تماسك المجتمع والدولة، اذ أنها تمثل الأساس الذي يقوم عليه التعايش السلمي والتآلف بين شتى فئات المجتمع.

التسامح يساعد في تقبل الاختلافات والتنوع في المجتمع، سواء كانت اختلافات دينية، عرقية، ثقافية، أو فكرية؛ ويعزز التسامح  الاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع، مما يقلل من الصراعات والتوترات، ويسهم في بناء جسور التواصل والحوار بين شتى الفئات، مما يقوي الروابط الاجتماعية.

و التسامح يقلل من فرص نشوب النزاعات والصراعات الداخلية، مما يعزز الاستقرار والأمن في الدولة، و يسهم في خلق بيئة آمنة ومستقرة، تشجع على الاستثمار والتنمية، و يقلل من التطرف والعنف، اذ أن التسامح ينبذ التعصب والكراهية؛ و المجتمعات المتسامحة تكون أكثر انفتاحًا على الأفكار الجديدة والابتكار، مما يعزز التنمية والازدهار.

و التسامح يشجع على التعاون والشراكة بين شتى الفئات، مما يسهم في تحقيق الأهداف المشتركة؛ و المجتمعات المتسامحة تكون أكثر جاذبية للاستثمارات الخارجية، مما يعزز النمو الاقتصادي؛ و التسامح يعزز قيم المواطنة، مثل المساواة والعدالة والتعاون، و يسهم في بناء مجتمع يقوم على احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، و  يشجع على المشاركة الفعالة في الحياة العامة، مما يعزز الديمقراطية والحكم الرشيد.

و تعزيز ثقافة التسامح، تتركز في نشر ثقافته بوساطة المناهج التعليمية ووسائل الإعلام، وتشجيع الحوار والتواصل بين شتى الفئات، وتنظيم فعاليات مشتركة، و سن قوانين وسياسات تحمي حقوق القوميات والأقليات وتعزز المساواة، و دعم المبادرات المجتمعية التي تهدف إلى تعزيز التسامح والتعايش السلمي.

باختصار، ثقافة التسامح هي حجر الزاوية في بناء مجتمع ودولة متماسكين ومزدهرين.

 

ثقافة العمل والبناء الاقتصادي

يؤدي البناء الاقتصادي السليم وثقافة العمل المرتبطة به، دورًا حيويًا في تعزيز بناء الدولة، اذ يسهمان في تحقيق الاستقرار والازدهار والتقدم.

ودور ذلك يتركز في  تحقيق الاستقرار المالي، اذ  يسهم الاقتصاد القوي في توفير الموارد المطلوبة لتمويل الخدمات العامة، مثل التعليم والصحة والبنية التحتية، و  يقلل من الاعتماد على المساعدات الخارجية، مما يعزز السيادة الوطنية، و يسهم النمو الاقتصادي في خلق فرص عمل جديدة، مما يقلل من البطالة والفقر.

   وتسهم ثقافة العمل وتطوير الاقتصاد في تحسين مستوى المعيشة وزيادة الرضا العام، وتنشئ اقتصادا قائما على التنوع والابتكار في تحقيق التنمية المستدامة، و  في حماية البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية، و دعم الأمن الوطني بتعزيز القدرات الدفاعية للدولة؛ وتقلل ثقافة العمل وتعزيز الاقتصاد  من التوترات الاجتماعية التي قد تؤدي إلى عدم الاستقرار.

  و ثقافة العمل التي تشجع على الالتزام والإتقان تزيد من إنتاجية العاملين، و تسهم في تحسين جودة المنتجات والخدمات، كما ان ثقافة العمل التي تشجع على الإبداع والمبادرة تسهم في تطوير حلول جديدة للمشكلات، تسهم    في زيادة القدرة التنافسية للاقتصاد، و ثقافة العمل التي تشجع على التعاون والاحترام المتبادل تسهم في خلق بيئة عمل إيجابية، و في زيادة الرضا الوظيفي وتقليل الصراعات، و  ترسيخ قيم المسؤولية والانضباط.

وبدورها تسهم ثقافة العمل التي تشجع على المسؤولية والانضباط في تحقيق الأهداف التنظيمية، وفي بناء مجتمع منتج ومنظم.

ان العلاقة بين البناء الاقتصادي وثقافة العمل، تتمثل في ان  البناء الاقتصادي السليم يوفر البيئة المناسبة لنمو ثقافة العمل الإيجابية، التي تسهم في تحقيق النمو الاقتصادي المستدام؛ و كلاهما يسهمان في تعزيز الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

 

 

تعزيز ثقافة العمل والبناء الاقتصادي السليم

استنادا الى تجارب الدول والشعوب والنظريات الاقتصادية والفكرية فان تعزيز ثقافة العمل يجري بالاستثمار في التعليم والتدريب، لتطوير مهارات العاملين وزيادة قدرتهم على المنافسة، و تشجيع الابتكار وريادة الأعمال، لخلق فرص عمل جديدة وزيادة القدرة التنافسية للاقتصاد، و  توفير بيئة عمل آمنة وصحية، لزيادة الرضا الوظيفي وتقليل الحوادث والإصابات.

 كما ان من الضروري تعزيز الشفافية والمساءلة،  لضمان استخدام الموارد العامة والطاقات البشرية بكفاءة وفعالية، و تشجيع المشاركة والحوار، لتعزيز التعاون بين العاملين والإدارة.

و يمكن القول إن البناء الاقتصادي السليم وثقافة العمل الإيجابية هما عنصران أساسيان في بناء دولة قوية ومزدهرة.

 

الشفافية والمساءلة

الشفافية والمساءلة هما مكونان أساسيان في ضمان استغلال الموارد العامة بكفاءة وفعالية وبناء الدولة وتحصين المجتمع.

والشفافية تتمثل في توفير معلومات دقيقة وواضحة بشأن الموارد العامة، مثل الميزانيات والإنفاق  واعلام الناس بجميع جزئيات الخطط والصرف فذلك يساعد في تعزيز الوضوح كما ان  توفير بيانات بشأن الأداء والكفاءة يمكن أن يساعد في تقويم فعالية استغلال الموارد العامة.

ان التواصل الفعّال مع السكان والمجتمع يمكن أن يساعد في تعزيز الشفافية وزيادة الثقة في الحكومة؛ اما ثقافة  المساءلة، فتتمثل في تواجد رقابة داخلية فعالة ويساعد ذلك في كشف أي مخالفات أو إساءة في استغلال الموارد العامة.

يضاف الى ذلك ان تواجد رقابة خارجية فعالة، مثل التدقيق الخارجي، يمكن أن يساعد في تقويم فعالية استغلال الموارد العامة، وان تواجد عقوبات واضحة ومفعّلة ضد أي مخالفات أو إساءة في استغلال الموارد العامة يمكن أن يساعد في تعزيز المساءلة.

ان ادارة ثقافة الشفافية والمساءلة بصورة نزيهة يساعد في تعزيز الثقة بين السكان والحكومة، وذلك يؤدي الى في تحسين الأداء والكفاءة في استغلال الموارد العامة، وثقافة الشفافية والمساءلة يمكن ان تساعد  في الحد من الفساد وإساءة استغلال الموارد العامة.

باختصار، ثقافة الشفافية والمساءلة هما مكونان أساسيان في ضمان استغلال الموارد العامة بكفاءة وفعالية. يمكن أن يساعد كلاهما في تعزيز الثقة، تحسين الأداء، والحد من الفساد.

 

عوامل بناء التماسك في العراق المعاصر

تجمع الدراسات على ان أول خطوة تقوم بها أي قيادة عراقية هي الحفاظ على متانة نسيج الناس الاجتماعي، وبحسب تلك الدراسات فان سكان العراق أقوياء عندما يتحدون، على حد قولهم، اذ يتحولون من تبديد طاقاتهم على النزاعات والصراعات فيما بينهم الى توجيه تلك الطاقات باتجاه البناء والابداع والتنافس الإيجابي، لكنهم عندما يتفرقون، يصبحون ضعفاء جدا تعيبهم كثرة الانقسام والصراع والاستغراق في تفاصيل جزئية تعوق حركتهم الإبداعية وتعطل نهضتهم الحضارية.

وإذا كانت الوحدة قد تحققت في الماضي بفعل القوة القاهرة والاستبداد السياسي، فهي لم تعد كذلك في الوقت الحاضر، فالوحدة بالإكراه غير منتجة، وغير قابلة للاستمرار. وعليه يتطلب العمل لتحقيق الوحدة من قبل أي حكومة عراقية فهما جيدا للاستراتيجيات الحديثة في إدارة التنوع والاختلاف وتطبيقها للوصول الى الوحدة بالتراضي في إطار دولة مدنية حقيقية.

يقول المؤرخون، ومنهم غوستاف لوبون، وهو أحد أشهر فلاسفة الغرب، وله مؤلفات وكتابات عن الشرق من بينها عن العراق، ان تجارب التاريخ توضح ان العراقيين يتقدمون بسرعة مذهلة عندما يحظون بالاستقرار، فهم أناس حركيون لا يقنعون بما لديهم، ويبحثون دائما وبشكل محموم عن دور لهم، وان سكان العراق عندما يفقدون شعورهم بالاستقرار تجد نزعتهم الحركية الرافعة لهم نفسها تقودهم الى الهبوط،، بسبب سقوطهم في الفوضى والصراع والانحدار الاجتماعي. ربما يرتبط جزء من تفسير ذلك بطبيعة الموقع الجغرافي للعراق، فوقوع هذا البلد في منطقة الاحتكاك الحضاري والثقافي الرئيسة في الشرق الأوسط يجعل سكانه في قلق دائم وشعور بعدم الارتياح والرغبة في اثبات الذات، فهي منطقة صدام بين الأفكار والعقائد والعادات والسلوك، ومن يسكنها يعلم تماما ان عليه القيام بالحركة والفعل الخاص به أو يكون مجرد انعكاس لحركة وفعل الاخرين، بحسب الدراسات.

ان غياب القيادة العراقية الاستراتيجية المدركة ترك نتائجه السلبية على الدولة والمجتمع، ولكن إذا كانت القيادة الاستراتيجية في الماضي ارتبطت بوجود قائد فرد استبدادي، فان الوضع في القرن الواحد والعشرين تغير كثيرا، فالقيادة أصبحت مفهوما أكبر من مجرد تواجد قائد استثنائي، فهي ترتبط اليوم بوجود مؤسسات حرة استثنائية تعمل بكفاءة على مستوى الرؤية والتفكير، ومستوى الأداء والانجاز.

وعليه العراقيون اليوم بهم حاجة الى قيادات استراتيجية تقودها مؤسسات كفؤة، فقيادة الفرد الكفء الواحد تمت مغادرتها ربما الى غير رجعة، فقيادة المؤسسات الاستراتيجية الحرة والفاعلة يمكنها الحفاظ على وحدة واستقرار العراقيين، ووضعهم بأمان على مسار الابداع والتقدم من جديد، وهذا الامر يقتضي أن تتغير الاحاديث والرؤى الفردية والاجتماعية الباحثة عن القائد الشريف والامام العادل والمستبد المستنير، لتصب في اتجاه البحث والمطالبة بالمؤسسات القوية العادلة والكفؤة، ليتناسب ذلك مع اتجاه حركة التطور البشري المعاصرة، فمن الأخطاء الكبيرة التي يقع فيها أي مجتمع واي مفكر هي انشغاله بالبحث والتفكير عن حلول لقضايا معاصرة بعقلية قديمة تجاوزها الزمن وبنبش الماضي.

لقد كانت أهمية العراق بوصفه عقدة مواصلات عالمية حاضرة في جميع الممالك والدول التي سادت فيه، لذا ظهرت قديما على ضفاف نهر (الفرات) كثير من الموانئ والمخازن التجارية، ومخرت عبابه النواقل ناقلة بحرا ثم برا البضائع الدولية، ولم يخسر هذه الاهمية الا عندما تجاهلها حكامه وتسنى لبلدان أخرى ن تأخذ دورهم، ومع ذلك لم يفقدها تماما، اذ لا زال العالم يجد في العراق مركز جذب لربط المواصلات العالمية عن طريقه، برغم ظروفه الصعبة، لذا لا غرابة ان تجده محطة مهمة في الوقت الحاضر لمشروع طريق التنمية والحزام والطريق الصيني للربط التجاري بين أسيا وأوروبا.

ويقول الباحثون ان زعماء العراق المعاصر لم يقوموا حتى الآن بخطوات عملية في الطريق الى استثمار موقع بلدهم استثمارا امثل لتعزيز تماسكه، وكأنهم يريدون البقاء جزءا من مشاريع الاخرين من دون التفكير بامتلاك مشروعهم الاستراتيجي الخاص.

ويرى باحثون، ان عدم نشاط العراقيين اليوم لتحويل بلادهم الى محطة جذب متقدمة وآمنة ورخيصة للتجارة العالمية، دليل واضح على عجزهم وقصور تفكيرهم وضعف قدرتهم في استثمار مرتكز أساس من مرتكزات قوتهم بشكل صحيح وتكييفه الإيجابي لمصلحة العراق وشعبه؛ بل ان اهمالهم لهذا الجانب كان من الأسباب الرئيسة التي جعلت الاخرين يتصرفون بشكل سلبي لإعاقة أي مسار تطلعي للعراق في طريق الربط التجاري العالمي.

ان العراق لديه عوامل ضعف مزمنة، كما لديه عوامل ثقافة قوة كامنة، ولا يمكن لسكانه ـ أي كانوا ـ اخذ دورهم المتمدن، وبناء دولتهم المقتدرة الا بتحييد عوامل ضعفهم وتشتتهم بإيجاد العلاجات المناسبة للخلاص منها، واستنهاض عوامل تماسكهم وقوتهم، باستثمارها الأمثل لتحقيق مصالحهم العليا، وهذا يتطلب درجة عالية من النضج لدى الحكام والمحكومين، بحسب ما تجمع عليه الدراسات.

قد يعجبك ايضا