د. نايف كوردستاني
أكاديمي وكاتب في الشأن السياسي
تُعدُّ الديمقراطية من أرقى الأنظمة السياسية التي توفِّر للشُّعوب حرية المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية من خلال الانتخابات الحُرَّة، والنزيهة، وهي تهدف إلى تعزيز العدالة، والمساواة، وضمان حقوق المواطنين قوميًا، ودينيًا، ومذهبيًا، وسياسيًا في الدولة الديمقراطية. ومن المعلوم أن هناك تعدّدًا للتسميات التي لها دلالة على طبيعة أنظمة الحكم في العالم، كالأنظمة الديمقراطية، أو الأوتوقراطية، أو الثيوقراطية، أو البيروقراطية، أو الأرستقراطية، أو التكنوقراطية، أو الكليبتوقراطية!
ما مفهوم الكليبتوقراطية؟
يعود أصل كلمة الكليبتوقراطية إلى اليونانية من كلمتي (كليبتو- Κλεπτο) التي تعني (اللص)، وكلمة (قراط- κρατ) التي تعني حكم، ومن هذا تكون الترجمة لمصطلح الكليبتوقراطية (حكم اللصوص)، وهو نمط الحكومة الذي يُراكم الثروة الشخصية، والسلطة السياسية للمسؤولين الحكوميين، والقلّة الحاكمة الذين يكوّنون (الكربتوقراط)، وذلك على حساب الجماعة، وعادة ما يكون نظام الحكم في تلك الحكومات بالأصل ديكتاتوريًا، أو استبداديًا، ومع ذلك فقد تظهر الكليبتوقراطية في بعض النظم الديمقراطية التي انزلقت من (الأولغارشية)، وهي حكم الأقلية أي تكون السلطة بيد فئة، أو مجموعة صغيرة من المجتمع تمتلك السلطة العسكرية، والمال. ومصطلح الكلِيبتوقراطية هو تعبير عن نظام حكم جوهره الفساد، واللصوصية، أو نهب الثروات العامَّة. وتقوم سلطة الفساد على وحدة مكينة بين السلطة السياسية، وسلطة مافيات لصوصية تسطو على الثروة العامة بوسائل عديدة يتم شرعنتها بآليات عمل حكومية رسمية عبر برامج مشروعات وهمية، وأشكال من التَسَتُّر من قبيل إحالة ما يُفتضح من أمور للجان تحقيقية تنهض بمهمة تمييع القضايا وسط تراكمها، وكثرتها، وضخامة ما فيها، وفوضى ما ينثر حولها. إذًا الكليبتوقراطبة هي نوع من أنواع الحكومات التي تتمثل في حكم اللصوص، وتستخدم النخبة الحاكمة السلطة لتحقيق مصالحها الشخصية عن طريق نهب الثروات العامة، واستغلال الدولة لأغراض خاصة، وفي هذا النظام تتحول السياسة إلى أداة لخدمة مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين يتمتعون بالسلطة، والمال، وتُستغل المؤسسات الحكومية لتحقيق مكاسب شخصية ضيقة جدًا، ويعدُّ هذا النوع من الحكم أنموذجًا للفساد المستشري، والمتغلغل في مفاصل الدولة، ويتم استغلال النظام الديمقراطي نفسه لتحقيق أغراض غير مشروعة.
وحكم اللصوص هو مصطلح يُستخدم للإشارة إلى الأنظمة الحاكمة التي تسيطر عليها نخبة فاسدة تسعى لتحقيق مصالحها الشخصية على حساب الشعب. في هذا النوع من الحكم يتم استغلال الموارد، والثروات العامة لتحقيق مكاسب خاصة للأفراد في السلطة، وأعوانهم بينما تُترك قضايا المواطنين، والمجتمع في طي النسيان.
وفيما يلي أبرز السلبيات التي تميز حكم اللصوص الذي يستغل مظلة الديمقراطية:
الفساد المستشري: أحد أبرز خصائص حكم اللصوص هو الفساد المستشري على المستويات الحكومية جميعًا. يتم نهب الأموال العامة، سواء عبر صفقات مشبوهة، أو سرقة الموارد الطبيعية. يشمل ذلك اختلاس الأموال المخصصة للبنية التحتية، والتعليم، والصحة ممّا يضر بالمصالح العامة، ويؤدي إلى تفشي الفقر، وتدهور مستوى الحياة. غالبًا ما يتضمن الفساد أيضًا محاباة الشركات، والأفراد المقربين من النظام الحاكم، فيحصلون على عقود، ومشاريع ضخمة بناءً على الولاء الشخصي، وليس الكفاءة.
الاستغلال السياسي، والاقتصادي: في حكم اللصوص يتم استغلال السلطة السياسية لتحقيق مكاسب اقتصادية شخصية. على سبيل المثال يتم تحويل المناصب العامة إلى مكاسب مالية لصالح المسؤولين في الحكومة، وأسرهم. وقد تُنهب الثروات الطبيعية، أو الموارد الاقتصادية للدولة لصالح الشركات الخاصة التي يملكها أفراد مقربون من السلطة، ويتم أيضًا استخدام النظام القضائي، والتشريعي لخدمة المصالح الشخصية، أو الحزبية ممَّا يعزز سيطرة النخبة على مفاصل الدولة.
التلاعب بالانتخابات: في معظم حكومات اللصوص يتم التلاعب بالعملية الانتخابية لضمان بقاء النخبة الفاسدة في السلطة، ويشمل ذلك تزوير الانتخابات، أو استخدام المال لشراء الأصوات، أو تقييد المعارضة بطرق غير قانونية. والانتخابات في هذه الحالة لا تمثل إرادة الشعب، بل هي مجرد أداة للتغطية على الفساد، وإضفاء الشرعية على النظام الحاكم، فضلًا عن ذلك قد يتم قمع الحريات السياسية، وتقييد النشاطات الحزبية المعارضة، ومن ثم تُنتزع الديمقراطية من جوهرها.
التركيز على السلطة بيد قلة: في ظل حكم اللصوص تكون السلطة بيد عدد قليل من الأفراد، أو مجموعة من النخب السياسية، والاقتصادية. يتم اتخاذ القرارات الكبرى في هذه الأنظمة بشكل غير شفاف، وغالبًا ما يكون هناك قمع لأي شكل من أشكال المعارضة. وهذا التركيز في السلطة يعني أن المسؤولين لا يخضعون للمحاسبة من الشعب، أو المؤسسات القانونية ممَّا يعزّز من تفشي الفساد، والظلم.
انعدام الشفافية، والمساءلة: تتسم حكومات اللصوص بانعدام الشفافية في إدارة الشؤون العامة. تُخفى المعلومات المتعلقة بإدارة الأموال العامة، ولا يمكن للمواطنين الاطلاع على كيفية إنفاق موارد الدولة، كما لا يُحاسب المسؤولون عن قراراتهم السيئة، أو أعمالهم الفاسدة، وفي هذه الأنظمة تكون وسائل الإعلام غير حرة، وقد تتعرض للرقابة، أو حتى التهديد في حال محاولتها كشف فساد الحكومة، وهذا يجعل من المستحيل على المواطنين محاسبة حكومتهم.
التدهور في الخدمات العامة: بسبب نهب الأموال العامة، وتتدهور الخدمات الأساسية، مثل التعليم، والرعاية الصحية، والنقل، وانعدام البنى التحتية بصورة عامة لا تُخصص الحكومة الأموال اللازمة لتحسين هذه الخدمات، بينما تُستخدم الميزانيات المخصصة لهذه القطاعات في أغراض شخصية، أو تُسلب من قبل المسؤولين. ويتسبب ذلك في تفشي الفقر، وتزايد معدلات البطالة، وارتفاع مستوى عدم المساواة بين الطبقات الاجتماعية ممَّا يؤدي إلى استياء عام، ويزيد من الفجوة بين طبقتي الأغنياء، والفقراء.
غياب العدالة الاجتماعية: في حكم اللصوص لا تُعامل فئات المجتمع جميعًا بشكل متساوٍ. ويتم تهميش طبقة الفقراء، والمجموعات الأقل قوة اجتماعيًا، وسياسيًا، بينما يُحظى المقربون من السلطة بمزايا، وامتيازات خاصة مما يؤدي إلى تزايد الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وزيادة التوترات داخل المجتمع.
القمع وانعدام الحريات: يتم قمع أية حركة معارضة بشكل عنيف، وقد تتعرض الحريات الأساسية، مثل حرية التعبير، وحرية الصحافة للتهديد. الحكومات التي تمثل (حكم اللصوص) لا تتسامح مع الانتقادات، بل تسعى لقمع أي صوت معارض باستخدام القوة، وفي هذه الأنظمة قد يتم اعتقال المعارضين السياسيين، أو قد يُجبر الصحفيون على الصمت، بينما تُحارب المنظمات غير الحكومية التي تعمل على مكافحة الفساد.
عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي: يؤدي حكم اللصوص إلى عدم استقرار سياسي حيث تكثر الاحتجاجات الشعبية، والاضطرابات بسبب فقدان ثقة المواطن بالحكومة، ومع استمرار الفساد، وتزايد الاستياء تصبح البلاد عرضة للاضطرابات الاجتماعية، والثورات، فضلًا عن ذلك قد تؤدي الأزمات الاقتصادية الناتجة عن فساد النخبة الحاكمة إلى فقدان المواطنين للأمل في تحسُّن الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية ممَّا يساهم في تصاعد الاضطرابات.
عزلة الدولة دوليًا: حكومات اللصوص غالبًا ما تواجه عزلة دولية بسبب سجلها السيّئة الصِّيت في حقوق الإنسان، والفساد المستشري، والمتغلغل في جسد الدولة. قد تفرض الدول الأخرى عقوبات اقتصادية على هذه الحكومات، وتبتعد عنها في التعاملات التجارية، والاقتصادية. وقد تكون الدول، والمنظمات الدولية حذرة في تقديم الدعم للمشاريع التنموية في هذه البلدان ممَّا يفاقم من مشكلات الدولة، ويزيد من عزلتها.
تُمثّل حكومة اللصوص واحدة من أسوأ صور الفساد في النظام السياسي حيث يتم استغلال السلطة لتحقيق مصالح شخصية بينما يُترك الشعب يعاني من نقص في الخدمات، والفقر. وتتنوّع خصائص هذه الحكومات بين الفساد، والتلاعب بنتائج الانتخابات، وغياب الشفافية، وتدهور الخدمات العامة. لمكافحة هذا النوع من الحكومات يجب تعزيز سياسات الشفافية، والمساءلة، والمشاركة الشعبية الفاعلة في اتخاذ القرارات.
ومن أسباب ظهور حكومة اللصوص في النظام الديمقراطي: الفساد السياسي، وضعف المؤسسات الديمقراطية، والاستخدام السيّئ للنظام الانتخابي، واستغلال الانقسامات العِرقية، والدينيةـ، والطائفية، والتدخلات الخارجية، والتعامل بمزاجية مع القوانين النافذة، وخرق للمواد الدستورية، وتأويلها حسب الجهة المسيطرة على مقاليد الحكم، وغياب الجهات الرقابية.
والفرق بين الكليبتوقراطية، والديمقراطية هو أن الديمقراطية تسعى إلى تحقيق العدالة، والمساواة من خلال مشاركة حُرّة، ومتساوية بين المواطنين، أما الكليبتوقراطية فتحوِّل هذه القيم إلى مجرد واجهة تستخدم لتحقيق مكاسب فئوية، أو حزبية، أو فردية للنخبة الحاكمة.
الكليبتوقراطية تُمثّل تهديدًا خطيرًا للنظام الديمقراطي إذ تستخدم الديمقراطية غطاءً للفساد، واستغلال للسلطة، كما أن للكليبتوقراطية تأثيرات سلبية عميقة على المجتمع حيث تؤدي إلى تآكل الثقة في المؤسسات الديمقراطية.