مجاشع التميمي
الاتصال الذي جرى مؤخرا بين رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ووزير الخارجية الامريكي ماركو روبيو لم يكن مجرد تواصل دبلوماسي تقليدي، بل حمل ابعادًا اقتصادية استراتيجية تتجاوز الأطر المألوفة للعلاقات الثنائية بين البلدين. على الرغم من ان هذه العلاقات محكومة باتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة منذ عام 2011، الا ان التركيز في هذا الاتصال انصبّ على تعزيز التعاون التجاري، خصوصًا في قطاع الطاقة، وتهيئة بيئة استثمارية امنة للشركات الامريكية في السوق العراقية. وفي هذا السياق، اكد الوزير روبيو على اهمية توفير حماية قانونية كاملة للاستثمارات الامريكية، مشيرًا الى ان تحسين العلاقات التجارية بين البلدين يشكل جزءًا اساسيًا من بنود الاتفاق الاستراتيجي.
ومع تزايد الاهتمام الامريكي اليوم بمسألة استقلال القرار السيادي العراقي، خاصة في قطاعات الطاقة واستثمار الموارد مثل الغاز الطبيعي، يبدو ان واشنطن تركز بشكل اكبر على ضمان تخلص العراق من التاثيرات الاقليمية، مع التاكيد على ضرورة حصر السلاح بيد الدولة.
وفقًا لنظريات العلوم السياسية، فان احتكار الدولة لاستخدام القوة ضمن حدودها يعد من الاسس الرئيسية لتعريف الدولة. ومن هذا المنطلق، وفي ظل المتغيرات الإقليمية التي شهدها الشرق الاوسط، لا سيما بعد سقوط نظام بشار الاسد، اصبح من الضروري معالجة قضية السلاح خارج سلطة الدولة، وتحقيق سيطرة القائد العام للقوات المسلحة عليه بالكامل.
خطوة اساسية
وفي هذا السياق، تتلاقى المصالح العراقية والأمريكية في تعزيز احتكار الدولة للسلاح، الامر الذي يعد خطوة اساسية نحو ترسيخ سيادة العراق وضمان استقراره. غير ان هذه الخطوة تضع العراق في مواجهة تحدٍ كبير، يتطلب قرارات جريئة وحاسمة قد تُحدد مستقبله. ولكن، كما هو الحال في الاوقات الصعبة، فان القادة الاستثنائيين هم من يتخذون القرارات التي قد تغير مصير البلدان، والسوداني يبدو قادرًا على مواجهة هذا التحدي وتحقيق التوازن المطلوب بين المصالح الوطنية والتحديات الاقليمية.
وفيما يتعلق بالنفوذ الاقليمي، فقد اصبح واضحًا ان النفوذ الايراني والتركي في العراق ليس ظاهرة حديثة، بل هو متجذر منذ التغيير السياسي الذي وقع في عام 2003. هذا النفوذ لم يقتصر على الجوانب العسكرية فقط، بل امتد ليشمل المجال الاقتصادي من خلال تغلغل الشركات الإيرانية والتركية في السوق العراقية، مما اثر سلبًا على قدرة الشركات المحلية في منافسة هذه الشركات الاجنبية.
هذا الواقع يمثل تحديًا كبيرًا للحكومات العراقية المتعاقبة، حيث بات من الضروري تعزيز دعم القطاع الخاص، واعادة التوازن الى السوق العراقية، لتوفير حماية فعالة لرجال الاعمال والشركات المحلية ضد الضغوط الإقليمية. من خلال ذلك، يمكن تحقيق نهضة اقتصادية تساهم في تعزيز استقلالية العراق وسيادته الاقتصادية، وتقلل من تبعيته لاي نفوذ خارجي.
ان استقلال العراق في مجال الطاقة يُعد من الأولويات الأساسية التي تركز عليها الحكومة، وهو ما جعل الاتصال مع الوزير الامريكي يسلط الضوء بشكل خاص على هذا الملف. فقد ابدت واشنطن موقفًا واضحًا بعدم تقديم استثناءات للعراق فيما يتعلق باستيراد الغاز والكهرباء من ايران، وذلك في اطار زيادة الضغوط على طهران. كما ان الولايات المتحدة تمارس ضغطًا على العراق لإعادة تصدير الطاقة عبر تركيا.
وفي ظل هذه الضغوط، بدا العراق بالفعل باتخاذ خطوات جدية لتأمين استقلال الطاقة، حيث تولي الحكومة اهتمامًا كبيرًا لاستثمار الغاز المحلي، الى جانب الى البحث عن مصادر بديلة لاستيراد الغاز قبل فصل الصيف. وفي هذا السياق، اعلنت حكومة السوداني عن مشروع مهم يتمثل في نصب منصة ثابتة في مواني العراق لتوريد الغاز المسال، وجرى التوصل الى اتفاق مبدئي بشان تركيب منصة عايمة في ميناء خور الزبير لتوريد ما يقارب 500 الى 600 مليون قدم مكعب من الغاز يوميًا، وذلك حتى اكتمال مشاريع استثمار الغاز العراقي.
هذا المشروع يعد خطوة كبيرة نحو تعزيز استقلال العراق في مجال الطاقة، حيث تم التفاوض مع احدى الشركات الكبيرة التي تمتلك هذه المنصة، والتي اكدت التزامها بتوريد الغاز المسال، وتعهدت بتجهيز المنصة خلال شهر من توقيع العقد. اضافة الى ذلك، سيتم تنفيذ خط انابيب بطول 45 كيلومترًا لنقل الغاز وربطه بالشبكة الوطنية، مما يشكل نقلة نوعية في قدرة العراق على تامين احتياجاته من الطاقة بطرق مستقلة وامنة.