كيفية التعامل مع جيل بعد التهجير من الكُرد الفيليين ؟

عباس عبد شاهين
 
مضى أكثر من أربعين عاماً على جريمة التهجير القسري والتغييب التي تعرض لها الكُرد الفيليون على يد النظام المقبور، إذ كانت تلك الحملة الممنهجة محاولة لطمس هويتهم الوطنية وسلب حقوقهم الأساسية، وقد خلفت تلك الجرائم جروحاً عميقة لا تزال تنزف الى يومنا هذا، ومازال أبناءهم وأحفادهم يدفعون وزر تلك الجرائم، ومع أن النظام المقبور سقط عام 2003 الا انه لا تزال الآمال في إستعادة الحقوق وتصحيح المسار تصطدم بعوائق عديدة في مقدمتها السياسية والقانونية، مما يجعل إنصافهم صعب التحقيق والمنال.

في أحياء الكُرد الفيليين ببغداد والمحافظات، مثل (الكفاح، باب الشيخ، شارع فلسطين، جميلة، وحي الأكراد، والعطيفية) وغيرها، لا تزال القصص المؤلمة شاهدة على معاناة شعب عاش الإضطهاد والتهميش والقهر، الجدران هناك تحكي حكايات السجون والمعتقلات والقتل وسلب الحقوق بأبشع صورها، بينما تستحضر الذاكرة الجمعية صور جلاوزة ذلك النظام وهم ينفذون أوامر وفرمانات الطغيان بلا رحمة، وقد تجلى حجم الظلم من خلال سلسلة من الإنتهاكات العنصرية، أبرزها التهجير القسري إلى إيران وتغييب الآلاف من الشباب مع إسقاط الجنسية ومصادرة الأموال والممتلكات وانتهاك الحقوق المدنية وغيرها.

وحتى اليوم لا يزال البحث جارياً عن رفات المفقودين في مقابر جماعية لم تُفتح ملفاتها بالشكل المطلوب، في جريمة يدينها العالم لكنها لم تأخذ حقها وإستحقاقها الحقيقي في ميزان العدالة الانتقالية بعد سقوط النظام المباد التي خلفت في الذاكرة أثاراً بشعة من المأساة والظلم والقهر والإضطهاد والتي ستنتقل جيلاً بعد جيل، وبذلك تُجسد جرحاً غائراً في الذاكرة الجمعية للفيليين التي لا يمكن تجاوزها بسهولة.

وفي ظل هذه الذاكرة الثقيلة يبرز لنا جيل جديد من الشباب الكُرد الفيليين لم يعايش حملات التهجير القسري والظلم بشكل مباشر، ولم يكن شاهداً على سنوات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، التي عانى خلالها اهله داخل العراق وخارجه، وهذا الجيل نشأ في بيئة تختلف عن ذلك الزمن ومآسية ومظالمه ومعاناته، لكنه يواجه اليوم تحديات آخرى جديدة أبرزها خطر فقدان الذاكرة التأريخية والهوية في ظل المتغيرات الاجتماعية والسياسية المتسارعة.

يعيش هذا الجيل في عصر تتزايد فيه فرص التعلم والتطور والابتكار، لكن في المقابل هناك مخاطر تهدد ارتباطهم بهويتهم الأصيلة إذا لم تُنقل إليهم تجارب الماضي بالشكل الصحيح، لذلك فإن مسؤولية الحفاظ على الذاكرة التاريخية تقع على عاتق المجتمع الكُردي الفيلي بأكمله وخاصة النخبة، من خلال برامج تعليمية وإعلامية تُعيد إحياء التراث والتأريخ وتغرس في الجيل الجديد فهماً واعياً لحجم الظلم التاريخي الواقع عليهم.

إن التعامل مع هذا الجيل الذي يشكل المستقبل يتطلب إرادة حقيقية لتعزيز الوعي التأريخي والثقافي لديهم ويجب أن تتضمن السياسات برامج تربوية وتوعوية تشرح للأجيال القادمة تفاصيل ما مرّت به أسرهم مع تقديم حلول تتناسب مع خصوصياتهم واحتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية فإحياء الذاكرة ليس مجرد تذكير بالماضي بل هو استثمار في بناء مستقبل يُمكن لهذا الجيل أن يسهم فيه بفاعلية في إستعادة الحقوق ونيل الإستحقاقات وتحقيق العدالة الاجتماعية.

في النهاية، إن ضمان عدم تكرار المأساة يتطلب جهداً جماعياً يبدأ من الحفاظ على الذاكرة التأريخية مروراً بتمكين الجيل الجديد وانتهاءً ببناء مجتمع فيلي مترابط اجتماعيا ومتكامل يحقق العدالة لكافة أبنائه، فالتاريخ لا يُمحى، لكنه يُعاد كتابته بأيدٍ واعية ترفض التهميش وتطالب بحقوقها بقوة وإصرار.

قد يعجبك ايضا