تنظيم “داعش” الإرهابي يعود جذوره إلى تنظيم القاعدة في العراق بقيادة “أبو مصعب الزرقاوي”، الذي أسس “جماعة التوحيد والجهاد” عام 2003 لمواجهة القوات الأمريكية التي احتلت العراق. تطور التنظيم عبر مراحل متعددة، حيث أعلن الزرقاوي في 2006 تأسيس “مجلس شورى المجاهدين”، لكنه قُتل في نفس العام، ليخلفه “أبو عمر البغدادي”، الذي غيّر اسم التنظيم إلى “دولة العراق الإسلامية”. في هذا المقال، سنلقي الضوء بعجالة على نشأة داعش، وتسميته وأهدافه، استراتيجياته، وأثره على الأمن العالمي.
التسمية والنشأة:
تحمل تسمية “داعش” اختصاراً لجملة “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، والتي اعتمدتها وسائل الإعلام والمجتمع الدولي للإشارة إلى التنظيم، و«داعش» ليست تسمية ساخرة، كما قيل وكتب في وسائل الإعلام الغربية، بل تمثل حروف التنظيم الأولى التي تختصره، رغم اعتراض التنظيم على هذا الاسم ويصر على استخدام مصطلح “الدولة الإسلامية” فقط وعندما أعلن التنظيم في أبريل (نيسان) عام 2013 عن إطلاق اسم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على نفسه، قرر الإعلام، وفي قناة «العربية» تحديدًا، تسمية التظيم بمصطلح «داعش» ,و بهذ الصد يقول الاعلامي عبد الرحمن الراشد “كنا ندرك أن التنظيم يريد أن يستخدمنا، أي منصات الإعلام في أنحاء العالم، لبناء صورة تخدم أغراضه. وقد جاءت الاعتراضات حينها من أناس غررت بهم أدبيات الإرهابيين حينها، احتجوا على التسمية والتغطية لأنها مهينة للمدافعين عن الإسلام ضد المحتل الغربي، أو السنة المضطهدين، أو الدفاع عن عرب الأنبار، أو الثوار ضد نظام الأسد في سوريا. وفعلاً، هناك نشاطات مشتركة كانت تشوش على فهم الكثيرين. فعامة المسلمين البسطاء، وصغار السن من المراهقين، قد يصدقون أن التنظيم إسلامي يدافع عنهم بسبب اسمه، «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وعلمه الذي يحمل «الله أكبر». اسمه يختصر التاريخ والدين
الأيديولوجية:
يجسد أيديولوجية متطرفة تقوم على تفسير متشدد للإسلام، حيث يصر التنظيم على استخدام العنف لتحقيق أهدافه السياسية والدينية. يتبنى داعش فكرة إعادة إقامة الخلافة الإسلامية تحت زعامة زعمائه، مدعين أنهم الورثة الشرعيين للإسلام. يرفض التنظيم الحدود الوطنية الحالية، ويعتبرها اختراعات حديثة وعليه اعتمد التنظيم نهجًا متشددًا وانتقاميًا، مما أدى إلى اشتباكات مع الفصائل السنية الأخرى، وأضعف قوته. بعد مقتل “أبو عمر البغدادي” في 2010، تولى “أبو بكر البغدادي” القيادة واستمر في نهج الإرهاب.
مع اندلاع الأزمة السورية، انشق “أبو محمد الجولاني” وأسس “جبهة النصرة”، التي حققت مكاسب عسكرية ضد النظام السوري. في 2013، أعلن “أبو بكر البغدادي” عن قيام “دولة الإسلام في العراق والشام” (داعش)، محاولًا ضم “جبهة النصرة”، لكن الجولاني رفض.
بدلاً من محاربة النظام السوري، ركز تنظيم داعش على السيطرة على مناطق المعارضة، مما ساهم في إضعاف المعارضة وتعزيز سيطرة النظام في بعض المناطق.
التمويل
اعتمد تنظيم داعش على مجموعة متنوعة من المصادر المالية، مما أتاح له بناء قاعدة اقتصادية قوية خلال فترة سيطرته على أجزاء واسعة من العراق وسوريا. تميزت هذه المصادر بتنوعها بين أنشطة مشروعة وغير مشروعة واستغلال الموارد الطبيعية، إلى جانب التبرعات الخارجية. فيما يلي أبرز قنوات التمويل التي اعتمد عليها التنظيم:
1. النفط والموارد الطبيعية: شكّل النفط أحد أهم مصادر الدخل للتنظيم، حيث سيطر على عدد من آبار النفط في العراق وسوريا وبيع منتجاتها في السوق السوداء بأسعار أقل من السوق العالمية. بالإضافة إلى ذلك، امتد نشاطه إلى السيطرة على منشآت لإنتاج الغاز الطبيعي، خاصة داخل سوريا، حيث تم تهريبه إلى دول مجاورة مثل تركيا وإيران عبر شبكات تهريب معقدة.
2. الضرائب والرسوم: فرض التنظيم ضرائب على الأفراد والشركات مقابل ما كان يصفه بـ”الحماية”، كما كان يفرض رسومًا جمركية على البضائع التي تدخل مناطقه أو تعبرها، بالإضافة إلى جبايته لما يُعرف بـ”الخوة”.
3. الغنائم والأموال المصادرة: استولى داعش على مبالغ ضخمة من خلال نهب البنوك الموجودة في المدن التي سيطر عليها، مثل الموصل والرقة.
4. تهريب الآثار والبضائع: تورط التنظيم في تهريب الآثار وبيعها في السوق السوداء، إلى جانب تهريب وبيع سلع مختلفة لتحقيق مكاسب إضافية.
5. الدعم المالي الخارجي: تشير تقارير متعددة إلى أن داعش ربما تلقى تبرعات مالية مباشرة من أفراد ومنظمات في دول مختلفة، على الرغم من صعوبة تأكيد هذا المصدر بشكل قاطع نظرًا لطبيعة العمليات السرية لمثل هذه الشبكات.
6. الزراعة والثروة الحيوانية: استغل التنظيم الأراضي الزراعية الواقعة تحت سيطرته وقام ببيع محاصيل مثل القمح والشعير، إضافة إلى بيع المواشي والمنتجات الحيوانية في الأسواق المحلية والإقليمية.
7. الفديات: لجأ التنظيم إلى احتجاز رهائن من جنسيات أجنبية تشمل عمال إغاثة وصحفيين، بالإضافة إلى أفراد من الأقليات مثل الإيزيديين ” فتح اسواق النخاسة”، ليطالب بفديات مالية كبيرة مقابل إطلاق سراحهم.
في النهاية، هناك تقارير إعلامية تشير إلى أن التنظيم لجأ أحيانًا لاستخدام العملات الرقمية مثل البيتكوين لتحويل الأموال وتجنب الرقابة المالية الدولية، إلا أن هذا الادعاء ما زال بحاجة إلى تأكيد واضح ودلائل قطعية.
الأهداف والاستراتيجية
يتبنى تنظيم داعش فكرًا متطرفًا يستند إلى تأويل للنصوص الدينية حسب رؤيته، ويهدف إلى إقامة ما يسميه “الخلافة الإسلامية” من خلال وسائل تعتمد على العنف والإرهاب. يسعى التنظيم إلى استهداف الحكومات الوطنية، القوى الغربية، والأقليات الدينية، مستخدمًا أساليب وحشية تشمل القتل الجماعي، التفجيرات، والعمليات الانتحارية لتحقيق غاياته.
ومن أهم استراتيجيات التنظيم:
1. التجنيد والدعاية: اعتمد التنظيم بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام للترويج لأفكاره وجذب مقاتلين من جميع أنحاء العالم،( اكثر من 80 جنسية ).
2. السيطرة الإقليمية: أحكم سيطرته على مساحات شاسعة في العراق وسوريا، وفرض قوانينه بطرق قمعية وأساليب عنيفة.
3.التمويل: اعتمد في تمويل عملياته على تهريب النفط، عمليات الابتزاز، الفدية، والسرقة المنظمة، حيث ذكرناه بالتفصيل أعلاه.
4. الهجمات الإرهابية: نفّذ عمليات إرهابية في عدة دول، مستهدفًا المدنيين والمنشآت الأمنية لتحقيق أهدافه.
تأثير داعش على الأمن العالمي
تأثير تنظيم داعش على الأمن العالمي كان وما زال محوريًا في تشكيل ملامح التحديات الأمنية في العقد الأخير. أحدث التنظيم موجات من الفوضى وعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، حيث ارتكب جرائم جسيمة ضد الإنسانية تضمنت عمليات قتل جماعي، استعباد بشري، تعذيب منهجي، وتجنيد قسري للأطفال. تركزت أبرز جرائمه في سوريا والعراق، حيث نفذ عمليات تطهير عرقي واستهدافًا واسعًا للأقليات الدينية والعرقية، وكان من أشهرها الجريمة المروعة التي ارتُكبت بحق الإيزيديين في قضاء سنجار بتاريخ 3 أغسطس/آب 2014، والتي شهدت مقتل الآلاف واختطاف النساء والفتيات واستغلالهن جنسيًا في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية التي أدت إلى موجة نزوح هائلة.
أدى تمدد التنظيم واتساع رقعة عملياته إلى قلق عالمي متزايد، مما دفع الدول الكبرى إلى تشكيل تحالف دولي لمواجهته عسكريًا، حيث شنت قوات التحالف غارات جوية مكثفة على معاقله، إلى جانب دعم القوات المسلحة العراقية بكافة صنوفه من الجيش والشرطة الاتحادية والبيشمركة والحشد الشعبي وقوات سوريا الديمقراطية لإضعاف نفوذه واستعادة المناطق التي سيطر عليها.
لكن تهديد داعش لم يقتصر على الشرق الأوسط. فقد امتد تأثير التنظيم إلى نطاق عالمي، حيث ألهم تنفيذ هجمات إرهابية في قارات عدة، أبرزها أوروبا وآسيا وأفريقيا. طالت هذه الهجمات مدنًا كبرى مثل باريس، بروكسل، لندن وبرلين، حيث استهدفت مدنيين وأماكن عامة باستخدام التكتيكات الإرهابية كالتفجيرات الانتحارية وإطلاق النار العشوائي. إلى جانب ذلك، استغل التنظيم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر دعاياته المتطرفة ولتجنيد أفراد من مناطق بعيدة عن نطاق نفوذه المباشر.
في مواجهة هذا التهديد المتنامي، بادرت العديد من الدول بتبني إجراءات أمنية مشددة تضمنت تعزيز الرقابة على الحدود، تشديد قوانين مكافحة الإرهاب، ومراقبة الأنشطة الإلكترونية لاحتواء انتشار الفكر المتطرف والتجنيد عبر الشبكة العنكبوتية. كما ساعدت هذه التحديات في تحسين التعاون الأمني والاستخباراتي بين الدول، مما أسفر عن تفكيك شبكات إرهابية مرتبطة بالتنظيم وإحباط العديد من مخططاته.
ورغم انحسار التنظيم عسكريًا وخسارته الجزء الأكبر من أراضيه، إلا أن خطره لا يزال قائمًا من خلال خلاياه النائمة التي تنفذ هجمات غير تقليدية. ويبقى التصدي لفكره المتطرف وممارساته.
مواجهة التطرف بالفكر التنويري
مواجهة تنظيم داعش تتطلب استراتيجية متكاملة تتجاوز الحلول العسكرية والأمنية. فبالرغم من أن الوسائل العسكرية قد تنجح في إضعاف التنظيم ميدانيًا، إلا أنها لا تكفي للقضاء عليه نهائيًا، إذ إن الإرهاب ينبع من أفكار متطرفة تسبق تحوله إلى عنف على أرض الواقع. لذلك، لا بد من مواجهة الفكر المتطرف بالفكر، من خلال تعزيز التعليم، والتنمية، والإعلام الرشيد، وتعزيز التعاون الدولي لاجتثاث جذور الإرهاب ومنع عودته.
تنظيمات مثل داعش لا تعتمد فقط على القوة المسلحة، بل تستند إلى أيديولوجية متطرفة تجذب الأتباع وتبرر العنف كوسيلة لتحقيق أهدافها. لذا، يجب أن تشمل الاستراتيجية الشاملة لمكافحة الإرهاب الجوانب الأيديولوجية، والتعليمية، والاجتماعية، والاقتصادية، إلى جانب الجهود العسكرية والأمنية. فقط من خلال هذا النهج المتكامل يمكن تحقيق نجاح دائم في القضاء على الإرهاب ومنع ظهوره مجدددًا
الخاتمة
يمثل تنظيم داعش الإرهابي إحدى أكثر الجماعات المسلحة خطرًا في العصر الحديث، حيث أثار تهديدًا عالميًا من خلال أعماله الوحشية وأيديولوجيته المتطرفة التي تعتمد على العنف واستغلال الدين لتحقيق مآرب سياسية. استطاع هذا التنظيم أن يثير قلقًا دوليًا عبر تنفيذ هجمات إرهابية متعددة شملت تفجيرات، وعمليات انتحارية، واغتيالات، بالإضافة إلى استهداف منشآت حيوية في أماكن مختلفة حول العالم.
اعتمد التنظيم على استراتيجيات متطورة في الإعلام، مستغلًا منصات التواصل الاجتماعي لنشر أيديولوجيته المتطرفة، والترويج لمشاهد العنف بهدف بث الرعب واستقطاب المقاتلين الأجانب. كما لجأ إلى وسائل متعددة للتجنيد تضمنت الاستعانة بمنظمات وجمعيات راديكالية، واستغلال المساجد الخارجة عن الرقابة، وخطب الدعاة المتطرفين، بالإضافة إلى استخدام غرف الدردشة المشفرة والمنتديات الإلكترونية لنقل أفكاره واستهداف شريحة الشباب.
علاوة على ذلك، أظهر التنظيم قدرة كبيرة على تحقيق التمويل الذاتي، مما ساعده على الاستمرار لفترات طويلة. وقد اعتمد على أنشطة مثل تهريب النفط، وفرض الضرائب والإتاوات، ونهب البنوك، وتهريب الآثار، بالإضافة إلى استخدام الفديات والتبرعات غير الشرعية. كل هذه العوامل جعلت منه تهديدًا عالميًا يتجاوز الحدود الجغرافية، ما استدعى تدخل تحالف دولي لمواجهته عسكريًا وفكريًا، وأسفر ذلك في النهاية عن تقويض نفوذه وتراجع سيطرته على الأراضي التي احتلها.
في الختام، يظل تنظيم داعش مثالًا صارخًا للتطرف العنيف الذي يستدعي استمرارية الجهود لمواجهته على المستويين الفكري والعسكري- الأمني. ورغم الضربات الموجعة التي تلقاها التنظيم، إلا أن بقاياه وخلاياه النائمة المنتشرة في مناطق عدة ،لا تزال تشكل تهديدًا للأمن العالمي، مما يتطلب تعزيز التعاون الدولي للقضاء عليه بشكل كامل ونهائي وتجفيف منابع قوته الفكرية ومصادرالمالية.