نهاد الحديثي
وسط استياء شعبي كبير، دخل العراقيون مرحلة الحذر الشديد بعد ساعات فقط من انتشار وثيقة رسمية صادرة عن الوزارة تؤكد أن هناك “عجزًا كبيرًا” في تمويل الرواتب،,, وكانت وزارة المالية قد نفت وجود أزمة سيولة بعد ساعات فقط من انتشار وثيقة رسمية صادرة عن الوزارة تؤكد أن هناك “عجزًا كبيرًا” في تمويل الرواتب، وذلك بعد أشهر من الإنكار ونفي التقارير بخصوص الوضع المالي في البلاد.
وكانت وزارة المالية قد نفت، في وقت سابق، وجود نقص في السيولة، مؤكدةً أنها ملتزمة بعملية تمويل الرواتب , وقالت الوزارة في بيان: “المعلومات المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتي تزعم اعتذارها عن صرف رواتب موظفي الدولة لهذا الشهر بسبب نقص في السيولة غير صحيحة تمامًا ولا تمتّ للواقع بصلة, وشددت على أنها “ملتزمة تمامًا بعملية تمويل رواتب الموظفين، حيث قامت دائرة المحاسبة بتمويل مستحقات الرواتب للوزارات والمحافظات والجهات غير المرتبطة لشهر كانون الأول الحالي وفق الجداول المحددة لكل منها، وهي تواصل جهودها لضمان استمرارية صرف المستحقات المالية دون أي تأخير أو انقطاع ,, ودعت الوزارة جميع وسائل الإعلام ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي إلى “توخي الدقة والحذر في نقل المعلومات، والتأكد من مصادر الأخبار قبل تداولها”، مشيرةً إلى أن “أبوابها مفتوحة للرد على أي استفسار عبر القنوات الرسمية”.
من جانب اخرأقرت اللجنة المالية البرلمانية، بوجود تكتم نيابي كبير بشأن أسباب تأخر إرسال جداول موازنة 2025 ,,وقال عضو اللجنة المالية، شيروان ميرزا في تصريح تابعته (المدى) إن “الحكومة العراقية لا تعاني من عجوز مالي وإنما من نقص في السيولة النقدية”، مشيراً إلى أن “ذلك سببه الرئيسي أن جزءاً كبيراً من الكتلة النقدية بأيادي المواطنين, وأقر عضو اللجنة بـ”وجود تكتم نيابي وإعلامي كبير لأسباب تأخير إرسال جداول موازنة 2025”.
يعيش العراق منذ أشهر أزمة سيولة نقدية، فيما طُرحت أسباب عدة بينها ما أكده المستشار المالي لرئيس الوزراء العراقي مظهر محمد صالح أن 85% من العملة العراقية خارج التداول بسبب تفضيل العراقيين اكتناز أموالهم بدل وضعها بالمصارف، وخشيتهم من المخاطرة باستثمار أموالهم , على مدى العقود الماضية، امتنع العراقيون عن حفظ أموالهم أو إيداعها في المصارف ولأسباب عديدة، ما جعل غالبية السيولة النقدية بالعملة العراقية خارج المصارف سواء الحكومية منها أو الأهلية، ما تسبب بأزمة مالية على مدى الأشهر الماضية.
وتقول مصادر انه بلغت قيمة الدولارات التي باعها البنك المركزي العراقي في الداخل والخارج هذا العام أكثر من 62 مليار دولار، وبالتالي حصل البنك على ما يعادلها بالدينار العراقي والذي بلغ نحو 80.6 تريليون دينار لهذا العام. على صعيد آخر، وصلت الإيرادات غير النفطية للحكومة من الضرائب والرسوم والمنافذ الحدودية حتى نهاية تشرين الأول 2024 إلى 14.3 تريليون دينار،وبالتالي فإن المبلغين معاً يصلان إلى نحو 95 تريليون دينار، لكن حتى نهاية شهر تشرين الأول بلغ إجمالي نفقات العراق 122 تريليون دينار، أي أنه لا يزال هناك شهران من نفقات السنة في حين نفدت الدنانير المتحصلة من عائدات الدولار التي تأتي من النفط ,, وحدث هذا في الوقت الذي تشير فيه تقارير البنك المركزي إلى أنه لم يتم طرح الدولار نقداً وحوالة خلال السنوات السبع الماضية بقدر ما تم طرحه هذا العام، حيث زادت النسبة بمقدار 34% عن العام الماضي، وبهذه النسبة عاد الدينار إلى خزينة البنك المركزي ومن ثم وزارة المالية، لماذا إذن يتحدثون عن نقص السيولة النقدية لتوزيع رواتب شهر كانون الأول لبعض المؤسسات في بغداد وحصة رواتب شهر تشرين الثاني لإقليم كوردستان؟
اسباب عديدة أوصلت وضع البلاد الاقتصادي إلى هذا المأزق، إذ يرى الخبير المالي محمود داغر أن الحكومة لم تحسم أمرها تجاه خطة واضحة للإصلاح، فضلا عن عدم تقديم وزارة المالية أي نهج مقنن وفني إزاء ما يحصل من تدهور وهوة واسعة بين الإيرادات والنفقات. المشكلات بين الحكومة والبرلمان والمناكفات السياسية أدت إلى تأخر وضع خطة تنقذ البلاد، خاصة أن الإصلاح الاقتصادي الذي وعدت به الحكومة لم يبدأ، فالسوء في إدارة المال العام منذ سنوات لا يزال مستمرا، واصفا ما يتجه إليه العراق بالهوة السحيقة التي ستجعله يواجه حراكا اجتماعيا وانصياعا للأطراف الدولية للحصول على الدعم, يجب على الحكومة محاربة الفساد المستشري ومعرفة أين ذهبت الأموال الفائضة من الموازنات السابقة التي لم يكشف عن مصيرها حتى الآن، بسبب غياب الحسابات الختامية للموازنات ,, وأوضح المحلل المالي محمود داغر أن قضية الرواتب في العراق ليست أزمة بحد ذاتها، بل هي نتيجة لحال متكررة تتعلق بسوء إدارة وتوزيع المبالغ المخصصة للرواتب، بدءاً من المنبع المتمثل بإيرادات النفط حتى المصب النهائي في المصارف عبر وزارة المالية,,وأشار داغر إلى أن حجم.
القطاع الوظيفي في العراق، الذي يشمل نحو 9 ملايين موظف، يشكل تحدياً كبيراً لإدارة هذه العملية. ولفت إلى أن تحويل إيرادات النفط إلى الدينار العراقي ثم توزيعها عبر القنوات المصرفية يتطلب نظاماً مالياً محكماً، لكن تعقيد هذه المنظومة غالباً ما يؤدي إلى تأخير أو تعثر في العمليات,,وأضاف داغر أن أسعار النفط تمثل التحدي الأكبر للاقتصاد العراقي، مشيراً إلى أن الموازنات تبنى بصورة أساس على تقديرات سعر النفط، ففي موازنة 2024 – 2025، احتسب سعر البرميل عند 80 دولاراً، بزيادة 10 دولارات على السعر الأصلي الذي يبلغ 70 دولاراً، لتغطية العجز المتوقع، ومع تراجع أسعار النفط عن هذه التقديرات، يصبح العراق أمام ضرورة اتخاذ قرارات صعبة لتأمين الرواتب وتغطية العجز المالي , وأكد داغر أن انخفاض أسعار النفط قد يفرض على العراق اللجوء إلى إجراءات تقشفية أو البحث عن مصادر تمويل بديلة، مثل تعزيز الإيرادات غير النفطية وإعادة هيكلة الموازنة، مشدداً على أهمية تحسين إدارة الإيرادات النفطية وضمان توزيعها بكفاءة، بما يحد من التأثير السلبي في الموظفين والاقتصاد.,, ويؤكد الاكاديمي و الخبير الاقتصادي همام الشمّاع أن الأزمات السياسية المتتالية في البلاد وتأميم المصارف في العقود الماضية والاستيلاء على أموال المودعين، كل هذه الإجراءات أفقدت العراقيين الثقة بالمصارف، ما أدى إلى خزن الأموال في البيوت، وبالتالي فإن الأموال المودعة في المصارف لا تزيد على 15% من حجم الكتلة النقدية العراقية ,, ويضيف ان المشكلات التي يعاني منها النظام المصرفي العراقي قديمة وموروثة من عقود خلت، إذ لم تواكب المصارف التقدم الكبير في العالم، ولم تتحول حتى الآن نحو الصيرفة الإلكترونية، حتى أن المواطن العراقي لا يكاد يجد صرّافا آليا في الطرقات ,وبالتالي فعمليات السحب النقدي في البلاد دائما ما تكون عن طريق فروع المصارف وخلال أوقات الدوام الرسمي فقط، وهذه مشكلة كبيرة يواجهها العراقيون في حال إيداع أموالهم بالمصارف , علما انه مرت 17 عاما على انفتاح العراق على الاقتصاد العالمي، غير أن جميع العراقيين لا يزالون يتعاملون بالعملة الورقية دون التعامل الإلكتروني عن طريق البطاقات الائتمانية , ويعتقد اكاديميون أن أن نسبة اكتناز العراقيين لأموالهم تقارب الـ 77% من مجموع الكتلة النقدية في البلاد، وان النظام المصرفي لا يمتلك القدرة على استقطاب المودعين والحفاظ على أموالهم، فضلا عن التعامل الحسن معهم، بما أدى منذ تسعينيات القرن الماضي إلى أن تلجأ جميع الحكومات إلى إيقاف سحوبات المودعين في فترة الأزمات ,, أن أزمة نقص السيولة في المؤسسات المالية العراقية تزداد تعقيداً، مرجعا السبب إلى اكتناز 70% من الأموال داخل المنازل وعدم تفاعل شرائح واسعة من المجتمع مع النظام المصرفي , وأشاروا إلى أن “الدولة تمتلك إمكانيات مادية كبيرة، إلا أن أزمة السيولة ستزداد مع الوقت إذا لم يتم اتخاذ خطوات جادة. من بينها، التطبيق الفعلي لقرار مجلس الوزراء الخاص بالانتقال إلى الدفع الإلكتروني في الأسواق والفعاليات الاقتصادية، ما من شأنه مكافحة التهريب والحد من تداول الأموال المزورة.