نازنين مندلاوي
الاضطهاد واحد ولو اختلفت الأزمنة، من مندلي إلى كركوك التأريخ يعيد نفسه حيث لا يختلف التحامل كثيرًا عبر العصور، فالأفكار ذاتها، والعنصرية ذاتها، والأساليب ذاتها، وحدها الأسماء والتواريخ تتغير. ما جرى مؤخرًا في كركوك حين أُهين فلاحٌ كرديٌ من قبل قوات الجيش العراقي لم يكن سوى انعكاسٍ لصورةٍ قديمةٍ تكررت مرارًا، صورةٍ عايشتها بنفسي قبل سنواتٍ طويلةٍ في مندلي، حين كنتُ طفلةً صغيرةً لا تفهم سوى لغتها الكوردية، لكن جسدت ببراءتها أولى صدماتها في معنى التمييز والاضطهاد.
كنتُ وأخي، طفلين صغيرين، نمسك بأيدي بعضنا البعض كل صباحٍ بينما يصطحبنا جدي إلى المدرسة. كان ينتظر حتى ندخل، ثم يمضي إلى عمله، ليعود عند انتهاء الدوام ويعيدنا إلى المنزل.
لكن في أحد الأيام، وبينما كنا نعبر بوابة المدرسة، انقلبت الحياة في لحظة. سمعنا صوت المديرة تصرخ: “أخرجوهم من المدرسة!”. تجمدنا في أماكننا، لا نفهم السبب، ولا نملك الجرأة على السؤال. كانت تتحدث بالعربية، لغةٌ لم نكن نجيدها، لكن من إشارات يدها نحو الباب وصراخها، أدركنا أن علينا المغادرة.
لم يكن لدينا مكانٌ آخر نذهب إليه، وقفنا خارج المدرسة كما أمرتنا المديرة، بجوار براميل النفايات، تحيط بنا أسراب الذباب، مشدوهين، مرعوبين، عاجزين عن الحركة، منتظرين عودة جدي وكأننا محكومان بالبقاء في ذلك المكان. وعندما جاء جدي أخيرًا ورآنا هناك، كان وقع الصدمة عليه أشد من أن يوصف. سألنا بغضب: “لماذا أنتم هنا؟”، فشرحنا له القصة ببراءةٍ موجعة.
عندها فقط انفجر غضب جدي، خلع يشماغه عن رأسه، دخل المدرسة ثائرًا، صوته يزلزل الجدران، يصرخ في وجه المديرة التي لم تجد أمام غضبه سوى التوسل لتهدئته، لكنها لم تندم على ما فعلت، بل هددت: “إذا لم تخرج، سأستدعي الشرطة، وأحفادك لن يدخلوا أي مدرسة في مندلي! أنتم أعداء الثورة وحزب البعث!”
لم تكن مجرد حادثة عابرة، بل كانت مقدمةً لما هو أسوأ. فبعد أيام، جاءت سيارات “زيل” العسكرية، اقتادتنا كما لو كنا مجرمين، وألقت بنا على الحدود، فقط لأننا كورد، فقط لأن والدنا كان قد التحق بالثورة، فقط لأن النظام لم يكن يرى فينا سوى أعداء يجب محوهم.
واليوم، بعد عقود، تتكرر المشاهد. في كركوك، يقف فلاحٌ كوردي بسيطٌ أمام أرضه، التي يعرفها كما يعرف وجه أمه، يُهان ويُداس من قبل جنودٍ يفترض أنهم يحرسون الوطن لا أن يهينوا أبناءه. تُسمع الكلمات ذاتها التي سمعتها أنا في طفولتي، تُستخدم التهم ذاتها، وكأن الزمن لم يتحرك، وكأن الدروس لم تُفهم.
لكن التاريخ ليس مجرد صفحات تُقرأ، بل هو شواهد حية، تذكرنا أن الاستبداد حين لا يُحاسب، فإنه يعود بأقنعةٍ جديدة، بأسماءٍ جديدة، لكنه يبقى استغلالًا، يبقى قهرًا، يبقى جريمةً لا تُغتفر.
ما جرى في مندلي بالأمس، وما جرى في كركوك اليوم، ليسا مجرد حادثتين منفصلتين، بل هما جزءٌ من سلسلةٍ طويلةٍ من التهميش والاضطهاد، من سياسةٍ تستكثر على الكوردي أرضه وهويته وكرامته. لكن مهما تكررت هذه المشاهد، فإنها لن تغير حقيقةً واحدةً:
الكوردي باقٍ على أرضه، ولن يركع.