ترامب في عصر تعدد الأقطاب…

إحسان آميدي

إن فوز ترامب مجدداً وعودته إلى رئاسة أمريكا هي قضية أمريكية ودولية ، إنها مسألة كبيرة ومهمة تستحق متابعة الجميع، لأن ترامب هو الرئيس السابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية التي تمثل القطب الأول في العالم، لكنها ليست القطب الوحيد! في وقت تشهد فيه العالم حروباً وصراعات ومنافسات ومخاطر تتعلق بالاستقرار والبيئة والأوبئة التي أثارت مخاوف العالم، والجميع يبحث عن منقذ.

لقد أسست الدول العظمى العديد من المنظمات الدولية في العالم ،لمعالجة القضايا الإنسانية والدولية، ووضعت المواثيق والمعاهدات والبرامج للعمل من أجل السلام والاستقرار واحترام حقوق الإنسان وحماية البيئة ومكافحة الأمراض والكوارث، بَيد أن الدول الكبرى تتعامل معها وفقاً لمصالحها الخاصة، وتلك المواثيق والمعاهدات تصطدم بالعقبات التي وضعتها هذه الدول، لذلك حتى الآن تخضع هذه المنظمات لسيطرة القوى العظمى وتُدار وفقاً لمصالحها.

الولايات المتحدة الأمريكية هي دولة رأسمالية عظمى، وتقوم سياستها على أساس نظريات الجيوسياسية والأمن القومي ومصالحها الاستراتيجية والحيوية والثانوية. وهي دائماً في صراع مع منافسيها وخصومها في جميع أنحاء العالم ولا تنفذ أي خطة اصلاحية كما هو مرسوم لها!
لكن هذه المرة جاء هذا الرئيس بالتهديد والوعيد حتى داخل بلاده وللدول المحيطة بها من أمريكا إلى المكسيك وكندا وبنما، إلى جزيرة غرينلاند، إلى المحيط الأطلسي وأوروبا وحلف الناتو، إلى روسيا وأوكرانيا، إلى الصين وتايلاند وكوريا الشمالية، إلى الشرق الأوسط وإسرائيل والعرب وإيران.

وكأن الرئيس لا يعترف بأحد ويعتقد أن طريقه خالٍ من العوائق والمنافسين، أو يظن أنه قوي بما يكفي ليفعل ما يشاء، وكأن لديه عصا سحرية في يده يوجهها كيفما يريد، وأن المجتمع البشري خاضع لأوامره، وسيكون كما يقول! لكنه في الواقع ليس كذلك، فستكون هناك عقبات ومنافسة ومعارضة لجميع تلك البرامج!
في الماضي، بدأت جميع الدول كقوى صغيرة ثم نمت، وفي جميع مراحل تكوينها ونموها واجهت تحديات وعقبات، وحتى عند بلوغها قمة القوة والعظمة ظل لديها منافسون ولم تستطع أن تفعل كل ما تريد. فهل من المعقول في هذا العصر المتعدد القوى والأقطاب أن يتمكن من تحقيق ما أعلن عنه!

من المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية ظهرت كقوة عالمية في بداية القرن العشرين وخلال الحرب العالمية الأولى، حيث كان في ذلك الوقت عدة أقطاب في أوروبا متورطة في الحرب، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والإمبراطورية العثمانية، بالإضافة إلى قوى أخرى مثل إسبانيا والبرتغال وهولندا.
مع نجاح الثورة الشيوعية في روسيا ونهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا والعثمانيين وإنهاك بريطانيا وفرنسا، تمهد الطريق لأمريكا للدخول إلى الساحة العالمية وتنفيذ سياساتها التوسعية.
من المعروف أن دور أمريكا كان محورياً في إنهاء الحرب العالمية الأولى، ومنذ ذلك الحين ازدادت قوتها ونفوذها العالمي يوماً بعد يوم وتنافست مع جميع منافسيها. لكن دورها الحاسم في الحرب العالمية الثانية وتدمير ألمانيا كان حاسماً لإنهاء الحرب وظهور أمريكا كقوة عظمى تمتلك السلاح النووي. وفي الوقت نفسه، ظهر الاتحاد السوفييتي أيضاً كقوة عظمى أخرى مواجهة لها، وأصبحت المنافسة بين هاتين القوتين تدفع العالم نحو خطر حرب أخرى، ولكن هذه المرة مع مخاطر الأسلحة النووية والدمار الشامل، اتخذت الحرب والصراع شكلاً مختلفاً، وهو الحرب الباردة، والتي شملت الحروب بالوكالة، والحرب الاقتصادية والإعلامية والدبلوماسية، والتهديدات! وجعل توازن القوى من المستحيل حل أي مشكلة في أي ركن من أركان العالم بشكل نهائي!

القضية الفلسطينية ، القضية الكردية مع الدول المحتلة، مشاكل دول وحركات أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وقارة أفريقيا، حتى مشاكل دول المعسكر الاشتراكي وحلف وارسو مقابل المعسكر الرأسمالي وحلف الناتو. في كل مكان كان أحدهم يقول “كلمة”، والآخر يرد “بكلمة أخرى ضدها”. كانت حركات التحرر والثورات الوطنية والانقلابات العسكرية والانتفاضات الشعبية تُدار بتدخل من هذه الأقطاب!
حملات انتخابات رؤساء الدول العظمى تتضمن برامج ومشاريع ومبادرات شاملة، لكن لم يستطع أي من هذه الأقطاب أبداً تنفيذ كل ما أعلنت عنه، فالكثير منها كان للاستهلاك المحلي لكسب الأصوات!
الإنسانية والحضارة في صراع ومواجهة مستمرة بسبب الاختلافات الأيديولوجية والمعتقدات وتنافس الرأسماليين أنفسهم. هذه المصالح والتركيبات المختلفة تتنافس وتتصارع مع بعضها البعض، وطالما وجدت عناصر الاختلاف فستظل موجودة!

أمريكا دولة عظمى وقطب عالمي ولديها برنامج خاص، لكنها ليست القوة العظمى الوحيدة، بل روسيا والصين وأوروبا أيضاً قوى عظمى وأقطاب ولديها برامجها الخاصة.
إضافة لذلك، هناك دول وقوى صغيرة ومنظمات متطرفة تدافع عن نفسها وترفض لغة الإملاءات والأوامر، وكل هذه الأقطاب والدول والقوى تتصادم. لذلك لا ينبغي أن يكون الإنسان ساذجاً ليعتقد أن هذا سحر وأن الحل في متناول اليد، وأنه بطل الإنقاذ الذي سيفعل ما يريد.
قضية النظام العالمي الجديد يجري الحديث عنها منذ بداية القرن العشرين، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، حيث أعلن جورج بوش رئيس أمريكا عن النظام العالمي الجديد، لكنه واجه مجموعة من العقبات ولم يستطع تنفيذ مشروعه. وهكذا استمرت المنافسة بين أقطاب الرأسمالية والحضارات والأيديولوجيات وما تزال مستمرة، ولا يُتوقع أن يكون هذا العالم مستقراً وهادئاً وأن تُحل وتُقضى على المشاكل.

ترامب الذي كان رئيس الدورة الـ45 للرئاسة الأمريكية، ترك وراءه الكثير من المشاكل والصعوبات: الصراع العربي الأسرائيلي، وإيران والمجتمع الدولي، والصين وتايوان، والناتو وأوروبا، وروسيا وأوكرانيا، وكوردستان والمحتلين… وحتى داخل أمريكا التي تُعرف بالديمقراطية، لم يسلم كرسي السلطة بسلام.

والآن وقد أصبح ترامب رئيساً للدورة الـ47 للولايات المتحدة، ما تزال المشاكل والصراعات والمنافسات مستمرة في العالم، وليس من السهل حلها بمجرد إعلان خطابات. حتى أمريكا نفسها دولة تتدخل وتخلق الأزمات وتصنع الفوضى دون أن تحل المشاكل أو تقضي عليها، وبينما تحل مشكلة واحدة تخلق العديد من المشاكل الأخرى!
لكن لكل إنجاز ودفاع، هناك حاجة للقوة: القوة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والعلمية والتكنولوجية… من يستطيع توفير هذه القوى سيتمكن من تحقيق المكاسب والدفاع عنها، ومن لا يستطيع توفيرها سيفقد حتى ما يملكه، ونحن الكورد في هذا العصرنسعى لإيجاد وتوفير واستخدام عوامل القوة لكي نبقى ونحقق اهدافنا.

قد يعجبك ايضا