متابعة ـ التآخي
من صحاري الشرق الأوسط إلى الغابات المطيرة في أميركا الوسطى، ضربت الكوارث المرتبطة بالمناخ كل ركن تقريبا من أركان كوكبنا في مرحلة أو أخرى من تاريخ البشرية.
كانت بلاد أكد اول امبراطورية قديمة في بلاد ما بين النهرين، بعد الحضارة السومرية المديدة، تأسست الإمبراطورية الأكدية قبل 4300 عام، عندما قام سرجون الكبير بتوحيد دول المدن في بلاد ما بين النهرين القديمة تحت حكمه.
وامتدت الإمبراطورية على طول نهري دجلة والفرات من الخليج العربي إلى تركيا الحديثة، ولكن بعد قرنين من تأسيسها، نحو عام 2150 قبل الميلاد، انهارت الإمبراطورية فجأة.
في العقود الأخيرة، اشتبه بعض علماء الآثار في أن الأكديين استسلموا للجفاف. تقول قصيدة “لعنة أكد”، وهي قصيدة تحكي عن انحدار الإمبراطورية، “لم تنتج المساحات الزراعية الشاسعة أي حبوب، ولم تنتج المساحات المغمورة أي أسماك، ولم تنتج البساتين المروية أي شراب أو نبيذ، ولم تمطر السحب الكثيفة”.
ثم في عام 2018، اكتشف علماء المناخ القديم أدلة جديدة في مكان غير متوقع: كهف جول زارد في شمال إيران، على بعد مئات الأميال.
قد يكون بعيدًا، لكن الكهف يقع مباشرة في اتجاه الريح من الأراضي الأكدية، وتوفر تركيبة صواعده سجلا دقيقًا لمراحل الجفاف في المنطقة – تشير مستويات المغنيسيوم الأعلى إلى فترات غبارية، يتزامن أحدها تمامًا مع سقوط الإمبراطورية.
اما أنجكور فكانت جوهرة تاج إمبراطورية الخمير، وازدهرت في ما يُعرف الآن بكمبوديا بين القرنين التاسع والخامس عشر الميلاديين.
ويجعلها مجمع المعابد المزخرف والمترامي الأطراف وجهة سياحية حديثة شهيرة، ولكن في أوج ازدهارها كانت المدينة رائعة بالقدر نفسه، بسبب نظامها المتطور من الخزانات والقنوات، وكانت عُرضة بشدة للرياح الموسمية الصيفية.
في عام 2010، أعاد الباحثون في مجال المناخ بناء قرون من تاريخ المناخ في المنطقة على أساس حلقات الأشجار، وهي وسيلة جيدة لقياس هطول الأمطار.
وخلصوا إلى أنه في نحو مطلع القرن الخامس عشر، دمرت الفيضانات الموسمية البنية الأساسية في أنجكور، التي كانت “عُرضة لخطر الأضرار الهائلة التي لا يمكن إصلاحها”؛ لقد ازداد الأمر سوءا، فقد جاءت هذه السنوات الممطرة الكارثية في ظل جفاف دام عقودا من الزمان؛ ومع تدهور إنتاجية المحاصيل بالفعل، ومع تدهور نظام إدارة المياه، أصبحت أنجكور أقل قدرة على دعم الزراعة.
اما حضارة المايا فظهرت في عام 2600 قبل الميلاد، واستمرت لأكثر من ثلاثة آلاف عام قبل أن تنهار في ما يُطلق عليه “أحد الأمثلة الأكثر وضوحًا وإثارة” للتفكك السياسي والاجتماعي.
في غضون أكثر من قرن بقليل، بين عامي 800 و950 بعد الميلاد، هجر المايا كثيرا من مدنهم العظيمة، وتوقف نشاطهم الثقافي تمامًا.
ولكن من الواضح أن هذه الحضارات لم تختف بالكامل ــ إذ يعيش ثمانية ملايين منها في أميركا الوسطى حتى يومنا هذا ــ ولقد اختلف العلماء لمدة طويلة بشأن طبيعة الانهيار.
وتشير الأبحاث المناخية على مدى العقود القليلة الماضية الى ان ما جعل هذه الحقبة مضطربة للغاية بالنسبة للمايا: “الجفاف الشديد”، الذي امتد من القرن التاسع إلى القرن الحادي عشر، وكانت دورات الجفاف هذه، كما كتب فريق من الباحثين “الأكثر شدة وتكرارًا في عصور ما قبل تاريخ المايا”.
وبحلول عام 950 م، أصبحت الأهرامات والقصور الرائعة في تيكال وكوبان وغيرها من المراكز الحضرية في حالة خراب.
في عام 985 ميلادي، وفقًا للملاحم الأيسلندية في العصور الوسطى، أبحر الفايكنج الأوائل إلى جرينلاند، ولسوء حظهم، اختاروا لحظة معتدلة غير معتادة للإقامة بالقرب من الدائرة القطبية الشمالية؛ استقروا هناك في ذروة العصر الدافئ في العصور الوسطى، حيث كان ارتفاع درجات الحرارة يدعم الزراعة، ولكن بعد ذلك، نحو عام 1300، عاد البرد بقوة بعد ثوران بركان سامالاس الضخم في إندونيسيا، مما أدى إلى العصر الجليدي الصغير.
وعندما وصل ذلك الشتاء البركاني إلى جرينلاند، لم يتمكن المزارعون النرويجيون ببساطة من التكيف بسرعة كافية.
في عام 2022، أعاد فريق من علماء المناخ من جامعة ماساتشوستس في أمهرست بناء مناخ المنطقة على أساس رواسب البحيرة، والمثير للدهشة أنهم لم يجدوا انخفاضًا في درجات الحرارة بل “اتجاهًا مستمرًا للجفاف”.
لقد استنتجوا أن هذا الجفاف، الذي كان من شأنه أن يقلل من العشب المخصص لرعي الماشية، ربما كان السبب الحقيقي وراء زوال مستوطني جرينلاند.
على مدى ما يقرب من ألفي عام، من عام 300 قبل الميلاد إلى عام 1300 بعد الميلاد، ازدهرت قبيلة بويبلو الأجداد في ما يظهر اليوم من أكثر البيئات غير المتوقعة: جنوب غرب الولايات المتحدة.
زرعوا الذرة وبنوا شبكة تجارية نابضة بالحياة انتشرت عبر ولايات يوتا وكولورادو ونيو مكسيكو وأريزونا، حيث تركزت حول مجمعات الحجر الرملي المعقدة في شاكو كانيون وميسا فيردي وريو جراندي؛ ولكنهم تركوا مدنهم العظيمة وراءهم عندما انقلب المناخ عليهم في منتصف القرن الثالث عشر، فبعد قرون من إزالة الغابات وتآكل التربة السطحية، كانت المنطقة تعاني بالفعل من تدهور المناظر الطبيعية، ثم ــ وهذا يظهر مألوفا الآن ــ جاء الجفاف .
ولقد تفاقمت ممارسات استغلال الأراضي غير المستدامة التي اتبعها أهل بويبلو بسبب انخفاض معدلات هطول الأمطار، وفي النهاية لم تعد حقولهم قادرة على دعم زراعة الذرة التي كانوا يعتمدون عليها بشدة من أجل البقاء. ولم يكن أمامهم خيار سوى الهجرة.