قيود الحقد وحرية التسامح

اللواء الدكتور سعد معن

لم يكن الصراع بين التسامح والحقد يومًا صراعًا خارجيًا بين الإنسان وخصمه، بل هو صراع داخلي، معركة تدور في أعماق النفس بين الأنا المتعطشة للانتقام ، وبين العقل الذي يدرك أن الاستمرار في الحقد لا يفضي إلا إلى مزيد من المعاناة. فالإنسان يعيش ممزقًا بين غريزته الأولى التي تدفعه إلى رد الإساءة بمثلها، وبين وعيه الذي يفرض عليه التفكير بما هو أبعد من اللحظة الآنية. وبين هذين القطبين، يجد نفسه أسيرًا لصراع لا ينتهي إلا بقرار حاسم: إما أن يتحرر أو أن يبقى عالقًا في دوامة الغضب.

يرى علي الوردي أن الإنسان كائن تحكمه التناقضات، فهو يقدّس الانتقام باسم الكرامة، لكنه في الوقت ذاته يعظّم قيم العفو والتسامح. هذه الازدواجية ليست وليدة العقل، بل هي نتاج بيئة اجتماعية زرعت في الأفراد فكرة أن التسامح ضعف، وأن المسامح يُنظر إليه على أنه منهزم حتى لو كان يملك القوة على الرد. وهكذا يتحول الحقد إلى أداة لإثبات الذات، لا لأن صاحبه بحاجة إليه، بل لأنه يخشى أن يظهر متسامحًا فيُساء تفسير موقفه. وهذه العقدة ليست فردية، بل هي جزء من النسيج الثقافي الذي يُطبع به الإنسان منذ صغره، حيث يتعلم أن القوة في التشبث بالأذى، لا في التخلي عنه.

علم النفس يرى أن الحقد ليس مجرد مشاعر، انما هو منظومة عقلية وسلوكية تنمو داخل الفرد بفعل التجارب المتكررة……وفقًا لنظرية سيغموند فرويد، فإن الإنسان عندما يتعرض للأذى ولا يجد طريقة فورية للانتقام، فإنه يكبت غضبه ليعود لاحقًا في شكل كراهية عميقة تجاه المعتدي، وأحيانًا تجاه العالم كله. هذه الكراهية تتحول إلى نمط تفكير، حيث يصبح الدماغ مبرمجًا على استدعاء الألم كلما فكر في الشخص الذي أساء إليه. في المقابل، التسامح ليس مجرد قرار أخلاقي، بل هو عملية عقلية تحتاج إلى جهد واعٍ لإعادة برمجة العقل ليكفّ عن استرجاع الإساءة وكأنها حدثت للتو.

علم الأعصاب يؤكد أن الدماغ البشري يتأثر بالحقد كما يتأثر بالخوف، فاستمرار الشعور بالغضب يحفز اللوزة الدماغية، مما يؤدي إلى زيادة إفراز هرمونات التوتر كالكورتيزول، والتي تؤثر سلبًا على صحة الإنسان الجسدية والنفسية. الإنسان الحاقد يعاني من توتر دائم، من تراجع في جودة النوم، من ضعف جهاز المناعة، وحتى من اضطرابات القلب، بينما الشخص المتسامح يتمتع بقدرة أكبر على التعامل مع ضغوط الحياة، لأن ذهنه غير مثقل بالمشاعر السلبية التي تستنزف طاقته.

التسامح ليس استسلامًا، هو قرار يتطلب قوة داخلية هائلة. مصطفى محمود يرى أن التسامح ليس فضيلة أخلاقية فحسب، بل هو فلسفة حياة، حيث يدرك الإنسان أن الانتقام لا يغيّر الماضي، وأن أفضل انتصار على الظلم هو أن يواصل المرء حياته دون أن يسمح للأذى بأن يعيد تشكيله وفق مقاييس المعتدي. الحاقد يظن أنه يمتلك زمام الأمور لأنه لم ينسَ الإساءة، لكنه في الحقيقة أسيرها، بينما المتسامح هو من يكسر القيد ويمضي خفيفًا، لا يحمل أعباء لا حاجة له بها.

حين يتصارع العقل والقلب، يكون القرار بين أن يغفر الإنسان ليحيا، أو أن يحتفظ بحقده ويموت ببطء. الأنا تحب الحقد لأنها تراه وسيلة لحماية كرامتها، لكنها لا تدرك أنها بهذا الحقد ترهن نفسها لمن أساء إليها، وكأنها تمنحه سلطة مستمرة عليها. في حين أن القوة الحقيقية ليست في الانتقام، بل في القدرة على التجاوز دون أن يفقد الإنسان كرامته أو ذاكرته. التسامح ليس نسيانًا، لكنه قرار بأن لا يكون الماضي قيدًا يكبّل الروح، خاصة وان كل الأشياء في هذه الدنيا هي افتراضية و وهم زائل من المال والمنصب والجاه وغيرها ،وأن لا يتحوّل الإنسان إلى صورة مشوهة ممن أساء إليه. ففي النهاية، لا ينتصر في هذه المعركة إلا من امتلك القدرة على التحرر وادرك ان متغيرات الحياة كثيرة ومستمرة وداوم الحال من المحال.

قد يعجبك ايضا