التآخي : وكالات
متاهات وتفاصيل حياته تختصر معاناة ومآسي الإنسان الكوردي الباحث عن الحرية والعشق بين جنبات جباله الشماء.
(ماسي) بطل رواية (حين تعطش الأسماك) للروائي حليم يوسف يمر بالعديد من المنعطفات الزمنية التي ترسم خارطة حياته القادمة، حيث يقطن في إحدى قرى (بن ختى) الواقعة بين شراك التاريخ المجحف الذي قسم الكورد بين دولتين (تركيا وسوريا)، فاصماً بين الكثير من العائلات بين الضفتين، يبحث عن الحلم المفقود في توحيد ما فرقه التاريخ وإعادة الجغرافيا إلى حالتها الحقيقية.
الكلب (بوزو) شريك ورفيق دائم بين تفاصيل الرواية ويجسد حالة الاغتراب الاجتماعي التي يعيشها البطل بين جنبات الأحداث.
الرواية تسحب القارئ نحو قيعان التجربة ويغوص فيها وتلهمه الإرادة والقوة، بمعنى أنه يضحى جزءاً لا يتجزأ منها ويتأثر بها وتؤثر به، فالأدب حاله حال الفنون البصرية الأخرى التي تحدث في المشاهد أو القارئ شروخاً قاتمة، وإذا كانت أعمال عزيز نيسين الأدبية كمثال تجعلنا في حالة من الكوميديا ويصاب القارئ معها بنوبة من هستيريا ساخرة، فإن حليم وروايته تجعلنا نشاهد ونرى الحوادث والأحداث بعيوننا قبل أن نقرأها، ويمكنه أن يحدث في نفوسنا جروحاً لا تندمل، وخاصة المشهد الذي يحمل فيه (ماسي) بطل الرواية صورة (هيفي) ابنة رفيق السلاح (ريناس) ويذهب إلى مكان سكنهم كي يعطيها إليها ويبلغها وصية والدها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يديه.
هذه التراجيديا المأساوية تجعلنا نرتطم بدواخلنا وتضعنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة المرة، وينتابنا موجة سوداوية مفرطة من الألم، وخاصة وهو يسرد مجريات وتقلبات حالة بطله الذي تحوله أحداث الرواية إلى عاجز بقدمين صناعيتين نتيجة الحرب الدائرة في خضم بحثه عن حقوقه المشروعة.
(ماسي) الشاب يحاول بكل كيانه التوفيق بين التعقيدات والتناقضات الداخلية للفرد الكوردي، الذي يتشكل وعيه ويتلبس بلون الواقع المرير، وبين قدرته على التكيف والتعايش مع ظروف الصراع، فالكوردي حسب البطل يلزمه قدره التضحية والنضال في سبيل مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
(برفين) حبه الهائج، الحاضرة الغائبة بين شبكة من التعقيدات الاجتماعية، ذلك الحب الأفلاطوني الذي يشبه حب (مم زين) في الملحمة الكوردية، ينكسر كما تنكسر معه كل الآمال والطموحات التي يرسمها في خياله، ففي رحلته بالبحث عنها يصادف الكثير من المصائب، حتى طبيعة كوردستان الجميلة تتحول أمامه كعدو حقيقي يحول دون وصوله إلى هدفه. برفين حالها حال بطل الرواية، فهي في بحث دائم عن وجودها في دولة تنكر عليها حتى الحديث بلغتها الأم، فالكوردي الجيد هو الكوردي الميت حسب العقلية التركية، هذه العقيدة تحرم على الكوردي حتى التفكير بكونه كوردياً.
المترجم (جوان تتر) أبدع في نقل الرواية من لغتها الأم الكوردية إلى العربية عبر سلاسة متراصة دون المس بحبكتها الدقيقة وتفاصيلها المريرة، رغم ما يشوب الترجمة عادة من مغالطات تجعلها ثقيلة لا تسر قلب القارئ.
صدرت الرواية عن دار نشر آفا في مدينة كوباني، هذه المدينة التي ألهمت قصتها وبطولاتها العالم بأسره، فكانت بحق ستالينغراد كوردية حمل فيها الكورد أرواحهم على أكفهم في مواجهة أكبر قوى ظلامية في التاريخ.