اعداد: عدنان رحمن
اصدار: 11- 2- 2025
الدكتور فلاح محمد الجواهري له رواية بعنوان ( حلم طائر غريب) صدر بطبعته الاولى عام 2022 عن دار سطور للنشر والتوزيع- بغداد- شارع المتنبي بالتعاون مع دار سومر للطباعة والنشر- لوكسمبورغ وفي جزء منها ورد:
– ” كان رصيف رسو ( ميستراديس) مزدحماً بعربات باعة الأطعمة ونوتيّة المراكب والحمالين وأكداس البالات والبراميل والأكياس المعدة للشحن وذلك اللغط الكبير بمختلف اللهجات المحلية والأجنبية يلتف حول كل شيء، فيزيد الفوضى الغريبة بأجواء غير مفهومة مشوشة، لكنها لا تخلو من سحر البهجة والغموض ومداخل الإكتشاف الجديد. ساعات الرسو غير قليلة تستغرق النهار كله ولكن الخوف من العوائق غير المحسوبة في أزقة وشوارع المدينة الكبيرة تقضي على روح المتعة عند الشاب- الصبي ذو البدلة الأنيقة والرباط الحريري في استكشاف المدينة الشهيرة. إنها الإسكندرية لاغير. ( المهمة الأساسية: أولاً البحث عن محبرة.. المدينة ثانيا). الشوارع المحاذية للميناء تكثر فيه المطاعم وحوانيت التحف المصرية المقلّدة وباعة الملابس البلدية المحلية التقليدية وأكشاك للصحف والمجلات بينها أبنية فنادق متقادمة وبنسيونات.. لامحل لبيع القرطاسية على مسار طويل قرب الميناء.
– يا معلّم!! تسمح تدلني من فضلك على محل لبيع القرطاسية؟
سألت اول عابر سبيل، رجل أسمر ضخم بقفطان وجلابية غامقتين وطرحه وطاقية مُزركشة.. شارباه الكثان يغطيان كامل شفته العليا وجزءً من السفلى.
– كرادسيّة أيه يا افندم؟.. كرداسيه يعني أيه بالمصري؟
– يعْني يا عَمْ، بِتاع وَرقٌ وإلام ودفاتر.. دَهُ أنا عايز إزازَةً حِبْرْ!
نظر من علٍ من بين شاربيه الكثين إلى الصبي الأنيق أدناه، وتردد برهة قبل أن يسأل:
– دانْتَه نازل دالوكيت من بواخر المينا؟
– أيوه يا عم.
– وعلى فين الكصد انشا الله؟
– لندن.. للدراسة.
– ورايح لبلاد الخواجاتْ وَحْديك؟
– أيوه يا عم.
تمهل قليلا قبل أن ينظر بإمعان إلى الشاب- الصبي المهندم ثم التفت ونظر حواليه وكأنه يحاذر شيئا إبتسم وقال:
– آه.. مفهوم يا افندم بَس هِنا ما فيش كراديس في الشارع دَهُ.. وَرايَة وانا حا دلّك!
بعد بضع خطوات في الشارع الذي كنا نسير فيه إنعطف بخطوات كبيرة إلى زقاق غير وسيع.. أشار إليّ بأن أتبعه. قطع مسافة غير قليلة قبل أن ينعطف إلى زقاق أضيق.. ثم إلى زقاق آخر أكثر ضيقا ببيوت متداعية تبدو وكأنها مهجورة. بين الحين والآخر كان يدير رأسه ينظر إلى الخلف ليتأكد أنّي أسير خلفه ويكرر إشارته لي بالمتابعة. خلال فترة أكثر من عشرة الدقائق التي قطعناها كان يسير بخطى كبيرة عجلى وكأنه يقطع الأزقة وحده، وأن الشخص الآخر الذى يسير خلفه لا علاقة له به. كانت الأزقة الضيقة الأخيرة خالية من أيّ بشر أو أي معلم للحياة، وكلما انعطفنا الى زقاق جديد إزداد إقفار المكان ووحشته.. لم نقابل جنس مخلوق واحد في العشر دقائق الأخيرة من الأزقة الأخيرة، التي تبدو وكأن أهلوها هجروها على عَجل بعد طاعون مفاجيء مرعب مميت. ( أين أنا؟!.. أيّ مخزن للقرطاسية في هذه المفازة القفراء الموحشة؟!!.. أهي وراء هذه الأبواب المكسّرة في البيوت الخربة أم في عتمة هذا الدهليز المليء بالنفايات.. أم خلف هذه الجدران المقشرة أحجار قواعدها بأحماض البول التي مُسحت بعضاً من الخط البدائي…. البول هنا للحمير). ازدادت رائحة البول العفنة. تباطأت خطواتي وازدادت دقات قلبي وتسارعت وأخذتُ أسمع ضجيجها في أذني وتكاثفت غيمة الخوف الغريزية المجهولة. ( أيّ مَحلِ قرطاسية في هذا الموات الموحش!؟). تباطأتُ أكثر، ثم أكثر، لتصبح المسافة بيني وبين هذا ( الطنطل) الصعيدي المرعب أكبر فأكبر. ما أن انعطفَ في الزقاق التالي حتى استدرت وركضت عائدا بين متاهة الأزقة الخالية وكأن الجن تطاردني ضاجّة صاخبة. لم أعد أسمع إلا صخبا لا أعرف مصدره. تضببت عيناي حتى أضحت غشاوة سرابية لا أميّز من خلالها إلا مصدر الضياء، أركض مشدوها سعياً وراء فسحة ضياء أكبر لزقاق أكبر لزقاق يقود إلى الشارع. أصبح الشارع الذي كنت أسعى إلى إيجاده هدفا بعيد المنال.. هدف نجاة. هدف حياة.. قمة امنية لا أعذب منها في الكون. عليّ أن أتشبّث بكل ما لديّ من عزم الخوف والهرب للوصول إليه. الشارع هو الضوء، الشارع هو الناس الشارع هو الأمل، الشارع هو الحياة. لا شيء آخر أريد في هذه الدنيا إلا الشارع. ( اركض… لا تلتفت!). اركض وإن أنقطع النَفَس. اركض إلى أيّة فسحة أكبر للنور!. نور أكبر، زقاق أكبر.. نور أكبر، أمل أكبر!. اركض اشد واسرع!. ها هي فتحة ضياء تلوح من بعيد عند آخر الزقاق الوسيع تطّل من خلالها عمارات الشارع. هنالك فَرد.. هنالك فرد آخر ألمحه يسير من بعيد على الرصيف. أريد ان أصرخ مستنجدا وانا أركض طائرا فيختنق صوتي. أصل الشارع أخيرا. أستند بذراعي على جدار مبنى في ركن الزقاق من الشارع.. بصعوبة بالغة أستطيع أخيرا من أن أسحب نَفَساً عميقا أحسه يحرق زوري وصدري.. أظل زمنا مستنداً على الجدار. أجلس على عتبة بناية مجاورة، أستعيد بصري وأنفاسي. أنظر إلى روعة ما حولي. الشارع الضيق بأبنيته العتيقة مهترئة الصباغ. أكشاك خشبية تبيع قلائد زجاجية ومسابح رخيصة ومناديل ملوّنة. حوانيت صغيرة بعضها إستبدل زجاج نوافذها المهشمة بصور أم كلثوم وهند رستم.. مطاعم بلدية تفوح منها عطور عذبة شهية. رائحة فول وطعمية وكُشري!!. أكوام قمامة صغيرة ملوّنة متناثرة هنا وهناك تنكش فيها النوارس البيضاء المتلامعة بنشاط وعبث مرح. بين السابلة تسرح بعض الكلاب السائبة تتقافز على بعضها لاعبة بين الحين والآخر بنباحات مرحة أو كزكزات غضب مفتعل. أفراد قلائل يمشون مسرعين أو متراخين بكسل على الأرصفة. آخرون يعبرون الشارع من هذا الجانب للآخر بفوضى بديعة تمتزج متناغمة بتعرجات الحافلات المارة بينهم. موسيقى أبواق السيارات المتعالية تتسابق في العزف. يا لمتعة الأمان بين الصخب.. بين حشد الناس بين الفوضى.. بين عبث عناصر الحياة الحلوة. أقف بهدوء مواجها أحد المارة ( الأفندية).
– يا فَنْدِمْ!! تسمح تدِلِني من فضلك.
أتذكَّرُ وأبتسم.. أعيد السؤال:
– تسمح تدلني من فضلك على الشارع اللي بِيوَصَّلْ للمينا.
***
أنا جُانين… جانين الحي اللاتيني.. رأيتك أما منشغلا في قراءة كتاب أو كتابة أوراقك المتناثرة أو تقف بعيدا عن شِلة أصحابك السوريين، سارحاً في العباب اللامتناهي.. وقدرت أنك لا بد قرأتَ الحي اللاتيني. إمرأة بسيطة الملبس نحيفة بوجه فيه شحوب وذبول، جاوزت الأربعين. ( أين منها من جانين الكتاب الساحرة). كنتُ في بيروت بدعوة من المؤلف، واصلت حديثها بابتسامة حزينة حائرة.
– أنت مع بعثة الطلبة السوريين إلى فرنسا؟.
– كلا لست معهم، جماعة لطيفة تعرفت عليها فوق سطح السفينة. أنا من بغداد وفي مغامرة دراسية لا أعرف مسالكها في لندن.
– قريبا سنمر بالقرب من سترومبلي، ذلك البركان الذي لا يتوقف هذه الأيام عن قذف حممه وشرره.. في مثل هذه الليلة الرائقة سترى مهرجاناً صاخبا من الألوان في السماء.
حين مررنا غير بعيد عنه، كانت الشِلة السورية تلتف حول جانين وهي تتكيء سارحة بمنظر المهرجان الناري المتفجر متكئة على إفريز السفينة.. صخب المسافرين الآخرين المبهورين بالمنظر الفريد يجعل من الصعب تمييز الكلمات واللغات المنطوقة بها في اللغط.
***
وصلتني رسالة مؤثرة من والدي، خلاصتها أنهم في دمشق وأوضاعهم مستقرة وطيبة من جميع النواحي. لقد وصل إلى علمه أنني أواجه كثيرا من الصعوبات في حياتي التي اخترتها بعد أن تركت دراستي في كلية الطب في بغداد. كان ولا يزال يعجب لقراري ذاك، وأن في دمشق كلية طب في جامعتها العريقة وهو بلد عربي نحبه ونحب اهله الكرماء. وبكلمات تقرب الرجاء أن عُد إلينا وإلى دمشق الجميلة، وكلية الطب. الخطوة الاولى لمسيرة العمل الإنساني الذي أعرف أنك من السالكين لدربه. ثم تنتهي الرسالة:
– اخبرني يا صفاء ما هي تكاليف السفر التي تحتاجها لأبعث بها اليك؟.
***
سقطت كل الحسابات والأرقام التي كانت تحرمني النوم في ليلي وتقلقني طوال نهاري أمام هذه الرسالة. أجبت باختصار شديد بعيدا عن أية تأثيرات عاطفية لا موجب لها، خلاصتها إني عائد قريبا ولا حاجة لأي دعم نقدي لتكاليف سفري الطويل اليكم، لأنها بحوزتي لم يكن ذلك صحيحا بالطبع. كان عليّ أن أقتّر في كل مصروف وأن أزيد من ساعات عملي في تحميل الشاحنات بالصناديق الثقيلة، لأعود فازدرد لقمة كي لا أصحو على الجوع في الساعت القليلة التي كنت أرقد فيها على السرير وغالبا بملابسي الكاملة. بعد بضعة أسابيع كان لدي ما يكفي للسفر On Deck فوق سطح السفينة تحت خيمة الله الزرقاء، السوداء بثقوبها اللامعة او تحت غيثه.
***
ركبت القطار ليلا لأصل الى مورين عند الفجر ولنستقل قطاراً آخر الى دارام وعلى احد التلال التي كنا نستلقي عليها وسط الغابة المحيطة مسحت سیل عينيها وأنفها وقبلت قطرات عسل النمش المالح الذي بان بشكل أوضح في وجهها المحتقن المحمر، واعداً إياها بدعوة ولقاء قريب في دمشق. حزمت نفس حقيبة الشيخ الكريم التي أضعتها في يوم واحد مرتين، وزرت مام هيلين وبكيتُ وانا احتضنها بحرارة، ثم العجوزين الوادعين جاك ومارثا.. أخيراً حملتُ حقيبتي في المساء وتوجهت إلى بيت جون ووني. لندن – ٢٥ كانون الاول ۲۰۲۱”.