قارئ ممتاز

زكية حمو مائل

في آخر اتصال بيني وبين أم إحدى صديقاتي، أعتبرها بمنزلة أم ثانية لي، سألتها كيف تقضي وقتها هذه الأيام ؟. فأجابت: أحاول أن أكون قارئة ممتازة بقدر ما أستطيع.
تملكتني الدهشة. إذ سبق لي أن سمعتُ أن هناك قارئاً نهماً، وقارئاً جيداً، وقارئاً واعياً، وقارئاً متابعاً، وقارئاً ذكياً، وقارئاً مستنيراً، وقارئاً بارعاً، لكن لم يسبق لي أبداً أن سمعت أن هناك قارئاً ممتازاً..
حبستُ في نفسي، وسألتها: كيف ؟. قالت: إذا كنتِ قارئة منتجة، فأنت قارئة ممتازة.

تضاعفت حيرتي ودهشتي، فطفقت تبددها بشرح مرادها من خلال مثال واقعي، فقالت:
” المخرج الرائع أنتوني مينجيلا قرأ يوماً رواية مايكل أونداني التي تحمل اسم ” المريض الإنجليزي ” ، وتحكي قصة وقعت أثناء الحرب العالمية الثانية تجمع بين العاطفة والمغامرة والمأساة وأصدق المشاعر الإنسانية، فأعجبته كثيراً كما أعجبت الكثيرين ممن قرؤوها قبله. لكنه، على خلاف الآخرين، أحب أن يكون قارئاً ممتازاً. ولذا توجه إلى الريف الإنجليزي، واختفى عن الأنظار داخل كوخ ملأه بكتب التاريخ العسكري ويوميات الجنود أثناء الحرب في شمال أفريقيا وإيطاليا، وأخذ يقرأ ويقرأ حتى انتهى من كتابة سيناريو فيلمه ” المريض الإنجليزي ” الذي نجح نجاحاً باهراً، ونال اثنتي عشرة جائزة أوسكار. محققاً بذلك رقما قياسياً لم يسبقه إليه فيلم بريطاني.

ما إن أنهيت مكالمتي حتى غصت برهة أفكر في كلام أم صديقتي العجوز. ثم نهضت فتناولت مرجعاً مهماً عن التحكيم القضائي للدكتور أنور وردة..
بدأت القراءة بتدبر واستيعاب، ورحت أتذوق كل كلمة أقرؤها وأستمتع بها. محاولة خلال ذلك أن أكون قارئة ممتازة بقدر ما أستطيع. فكانت نتيجة قراءتي أن خطرت ببالي فكرة إنشاء مركز تحكيم بحري على مستوى الشرق الأوسط، وأنا الآن في المراحل الأخيرة من تحقيق هذا الحلم..
أعدت التجربة مراراً وتكراراً فيما بعد. وفي كل مرة، وجدت نفسي أنتج، دون تخطيط مسبق، أفكاراً جديدة على شكل رواية أو بحث أو مقال أو سيناريو..
لكن الأروع من هذا أن أصدقائي المقربين مني اكتشفوا، بعد عامين من محاولاتي أن أكون قارئة ممتازة، أن طبيعة حياتي كلها قد تغيرت. إذ أصبحتُ أكثر منطقية في أحكامي، وأكبر توازناً في تصرفاتي، وأعظم إخلاصاً في أعمالي، وأشد حميمية ودفئاً وروعة في علاقاتي الإنسانية.. بل أكد لي بعضهم أنني فقدتُ خلال هاتين السنتين أسوأ خصالي التي كان المقربون مني يمقتونها، لكن الحياء منعهم عن مكاشفتي بها. كما أكد لي آخرون أنني اكتسبت خلال نفس الفترة خصالاً حميدة عديدة، لم أكن أتمتع بها من قبل.
في مطلع العام الحالي حدثتُ صديقة، تعمل مديرة لشركة كبرى، بتجربتي هذه. فأبدت رغبة عارمة لتطبيقها. وقررت أن تقتطع كل يوم نصف ساعة من وقتها، لتقرأ خلالها بحثاً مجدياً. وأن لا يشغلها عن ذلك شاغل مهما عظم.

ولدهشتي البالغة فقد اتصلت الصديقة بي الأسبوع الماضي، وأنبأتني أن نصيحتي قد أثمرت عندها نجاحاً لافتاً.. إذ قرأت قبل بضعة أشهر نظرية دلفي التي تتحدث عن الخوارزميات العملية للتنبؤ الجمعي، قراءة ممتازة، فكان أن أبدعت حلاً رائعاً لمشكلة عملية طالما استعصى حلها عليها وعلى طاقم الإداريين والفنيين الذين يعملون تحت إمرتها. وتبع ذلك أن وفـّرت الكثير من الوقت والجهد وراحة الأعصاب. فضلاً عن مبالغ هائلة كانت تـُدفع سنوياً لتجاوز آثار هذه المشكلة.

وإذ ذاك قررتُ أن أدوِّن تجربتي هذه في مقال، لعل الله يفيد بها من يقرأها. فإن بلغت قارئاً لم يكن يعرفها من قبل، واستفاد منها، فذلك حسبي. وإلا فإني أعتذر إليه، بكل تواضع وصدق، راجية إياه أن يمتثل نصيحة السياسي الفرنسي المشهور تاليران حين سُئِلَ يوماً: كيف يستطيع الإنسان أن يكون شخصاً محبوباً في المجتمع ؟. فأجاب بمنتهى الجدية والموضوعية: حسناً، إذا كنتَ تريد أن تصبح شخصية محبوبة حقا، فيجب أن توافق على أن تتعلم أشياء كثيرة، مع أنك تعرفها تمام المعرفة!.

قد يعجبك ايضا