زكية حمو مائل
سُئلت رئيسة الفلبين السابقة كورازون أكينو يوماً عن إيمانها في الحياة فقالت: أؤمن دائماً بالمحاولة. قيل: فقط ؟! قالت: أجل فالحياة كلها عبارة عن محاولات مستمرة للوصول إلى هدف ممكن جيد..
أعجبني جداً تقديمها شرط إمكان تحقق الهدف على صلاحه وجودته.. ذلك أنه من العبثية والجهالة صرف الوقت والجهد على هدف مستحيل، في حين أن الممكن يمكن تحقيقه ببذل الجهد المناسب بحسب سهولته أو صعوبته.
إذن نحن أمام ثلاثة حقول: حقل المستحيل، وحقل الممكن السهل، وحقل الممكن الصعب.
والاختلاط عادة يحدث حين تتداخل هذه الحقول بفعل العامل الزمني المرافق لكل منها. فعملية الزائدة الدودية تعتبر من الممكن السهل إذا أخذت الوقت المناسب، وهي من الممكن الصعب إذا افترضنا إنجازها خلال عشر دقائق فقط. وهي من المستحيلات إذا طلبنا من الطبيب الجراح إنجازها خلال ثلاث ثوان..
وينتج عن تداخل هذه الحقول الثلاثة، واختفاء الحدود الفاصلة بينها، أمر بالغ السوء والخطورة. هو أن تتبرمج عقولنا لترى الأشياء محصورة في حقلي السهولة والاستحالة، وبذا يختفي مفهوم الصعوبة الذي يُعتبر المحرك الرئيسي لتحريض آلية بذل الجهد. ونتحول تبعاً لذلك، دون أن ندري، إلى كائنات سلبية، ثقافتها الوحيدة هي الانسحاب والتردد والانكفاء على الذات وخنق الروح الوثابة الطامحة إلى حياة أفضل..
ولا حل لهذه المعضلة الرهيبة إلا أن نعيد برمجة دماغنا بصورة صحيحة، فنقتنع أن مساحة الممكن في الحياة هي العظمى، وأن بإمكان أي منا أن يفعل بجهده أشياء كثيرة جداً، ومهمة جداً..
فمثلاً يمكن لأي كان أن يلتزم الدقة في مواعيده. والصدق في كلامه. والوفاء في وعوده وعهوده. والإخلاص في ارتباطاته. والإتقان في عمله..
كذلك يمكن لأي كان أن يدرّب نفسه على التخلص من آفات قلبه كالحسد، والحقد، والكبر، والعجب، والبخل، والرياء، والأثرة، والنفاق. وأن يطهّر لسانه من الكذب، والغيبة، والنميمة، وفحش القول، وإيذاء الآخرين..
وليس مستحيلاً على أي كان أن يجترح ما من شأنه أن يبعث السعادة في دخيلة المقربين منه كالزوجة أو الولد أو الأخ أو الصديق أو الجار أو زميل العمل..
كذلك ليس مستحيلاً على أي كان أن يتسامح مع الآخرين، وأن يعذرهم، وألاّ يسرع في تكفيرهم ولعنهم عندما يختلف معهم. بل يلتزم الحكمة الرائعة: التمس لأخيك سبعين عذراً فإن لم تجد، فقل لعل له عذراً لا أعرفه..
وأخيراً، وليس آخراً، في مقدورنا جميعاً أن ننمّي مواهبنا وقدراتنا العقلية والفكرية والثقافية بالصبر والمثابرة والجد والاجتهاد، وتوظيف ذلك في خدمة الوطن، وتعزيز عوامل قوته ومنعته ورفعته..
صفوة القول أن ثمة هامشاً دائماً يمكن أن نتحرك فيه. وأن نرتقي خلاله باستمرار. شريطة ألا نقع في مصيدة الاستخفاف بالإنجازات الصغيرة. أو أن ننسى أن الإنجازات العظيمة هي محطة تراكمية للإنجازات الصغيرة التافهة.. تماماً كما أن الهرم هو تركيب ملايين الأحجار الصغيرة الممكنة الحمل..
فإن لم نفعل ذلك ( الفصل الدقيق بين الممكن الصعب والمستحيل، ومن ثم التحرك الإيجابي الذكي في حقل الممكن الصعب ) وقعنا آجلاً أو عاجلاً في مطب الإحباط. وأعظم إحباط يمكن أن يصاب به الإنسان حين يضع لنفسه هدفاً لا يستطيع الوصول إليه. وأفظع منه أن يعيش بقية عمره على هذا الحلم منتظراً المصادفات كي تحققه.. وبذا تتجمد عنده آلية الجهد، ويتلاشى معها أي أمل في التطور والارتقاء..
قبل ثلاث سنين من وفاتها أبدعت الشاعرة الأمريكية جوليا كارني قصيدة رائعة جاء فيها:
امضِ قدماً
ولا تتخاذل أمام الصعاب.
فقطرات الماء القليلة
وحبات الرمل الضئيلة
تصنع الأقيانوس الجبار
واليابسة الدمثة..