د. كوفند شيرواني
أستاذ جامعي
النفط شريان الاقتصاد العراقي
يمثل النفط شريانا للاقتصاد العراقي والمصدر الرئيسي لعوائده المالية. ففي الموازنة العامة لسنة 2024, قدرت الايرادات العامة بـ 111 مليار دولار, منها أيرادات نفطية قدرت بـ 89 مليار دولار (تمثل 80% من الايرادات العامة), و إيرادات غير نفطية قدرت بـ 21 مليار دولار فقط (تمثل أكثر من 19% من الايرادات العامة). في الوقت الذي تجاوزمجموع النفقات 162 مليار دولار, وبذلك يكون العجز المخطط في الموازنة يقارب 49 مليار دولار. واضافة الى ذلك, فعند احتساب الموارد الاقتصادية الأخرى المرتبطة بالنفط, فإنه نسبة اعتماد الموازنة على النفط ستتجاوز 90% وهذه النسبة لوحدها تؤشر خللا كبيرا في هيكلية الاقتصاد العراقي.
ينتج العراق حاليا أكثر من 4 ملايين برميل نفط يوميا ويصدر منها, وحسب مقررات تحالف الأوبك بلس, 3.3 مليون برميل يوميا, وبذلك يحتل المرتبة الثانية بين أكبر مصدري للنفط ضمن منظمة الاوبك, ويمتلك احتياطيات نفطية (تقدر بـ 152 مليار برميل) تضعه في المركز الخامس على مستوى العالم. ان الأهمية الكبيرة للنفط في اقتصاد البلاد, تستلزم ادارة رشيدة ومهنية لقطاع النفط والغاز من قبل الحكومة العراقية في كافة مفاصلها بالشكل الذي يضمن تنمية مستدامة للثروة النفطية وادارة مثلى لعوائدها المالية.
تصدير نفط الإقليم واشكالياته
بقيت مسألة ادارة حقول النفط والغاز في اقليم كردستان العراق موضعا لخلافات أستمرت لسنوات بين الحكومة العراقية الاتحادية وحكومة الأقليم وأرتبط هذا الخلاف بحصة الأقليم من الموازنة العامة والتي لم تحظى بانسيابية الأرسال وحسب, وكانت تتوقف لأشهرعديدة منذ العام 2014. وقد حصل تقارب كبير وتفاهمات عدة بين الحكومة العراقية برئاسة السيد محمد شياع السوداني والكابينة التاسعة لحكومة الاقليم برئاسة السيد مسرور بارزاني في الملف النفطي والملفات المشتركة الاخرى, حيث أبدت الحكومتان رغبتهما الجادة في حلحلة كافة الملفات العالقة بينهما. وبشأن الخلاف حول تصدير نفط الاقليم, كانت الحكومة العراقية ممثلة بوزارة النفط فيها قد أقامت دعوى قضائية في المحكمة التجارية الدولية في باريس في شهر مايس, العام 2014. وبعد ذلك بنحو تسع سنوات, وتحديدا في آذار 2023, أصدرت لجنة التحكيم للمحكمة التجارية الدولية قرارها والذي حصر سلطة تصدير نفط الإقليم عبر الأنبوب الواصل إلى ميناء جيهان التركي بوزارة النفط العراقية. وبالتالي أصبح لزاما على وزارة النفط الاتحادية أن تقوم بتصدير 400,000 برميل يوميا من نفط الأقليم عبر خط الأنابيب الواصل إلى ميناء جيهان التركي والقيام بكل التسهيلات والإجراءات الفنية والقانونية والمالية التي تسهل عملية التصدير.
وتجاوبا مع قرار محكمة باريس التجارية ومن أجل الأستمرار بتصدير النفط وديمومة عمل الشركات الأجنبية المتعاقدة مع حكومة الأقليم في انتاج ومعاملة ونقل وتصدير النفط من حقول الإقليم, أبرمت حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية اتفاقا رسميا في الأول من نيسان من عام 2023. وقع هذا الاتفاق برعاية رئيس الحكومة العراقية السيد محمد شياع السوداني ورئيس حكومة إقليم كردستان السيد مسرور بارزاني وتضمن الاتفاق أن تكون مهمة التسويق لنفط الاقليم على عاتق شركة تسويق النفط العراقية (سومو) وأن تودع إيرادات البيع في حساب بنكي تديره الحكومتان ويخضع للمراجعة المالية المشتركة من قبل ديوان الرقابة المالية الاتحادي وديوان الرقابة المالية لحكومة الإقليم.
الموازنة العامة وقانونها
بعد مناقشات مطولة في البرلمان العراقي وتأخير تجاوز النصف عام, صدر قانون الموازنة العامة رقم 13 للعام 2023 وهو قانون يشمل موازنة ألأعوام 2023 و 2024 و 2025. وقد أكد مضمون هذا القانون (تحديدا المواد 12 و 13) على مسؤولية وزارة النفط الاتحادية في تسويق النفط المنتج من الإقليم بواقع 400,000 برميل يوميا الى خارج البلاد أو استخدامه للاستهلاك المحلي. وهذا التفويض يتضمن أن على وزارة النفط الاتحادية أن تعالج كل الجوانب الإدارية والفنية والمالية التي تيسر تصريف هذا الإنتاج سواء كان للتصدير أو للاستهلاك المحلي عبر نقله إلى المصافي المحلية وتحويله الى منتجات نفطية.
اليوم وبعد انقضاء أكثر من 22 شهرا على توقف تصدير النفط و21 شهرا من اتفاق نيسان بين الحكومتين, لا تزال وزارة النفط العراقية, ورغم جهود المخلصين فيها, عاجزة عن وضع تقديرات مقبولة لانتاج ونقل نفط اقليم كردستان. التقديرات المقبولة برأينا يفترض أن تراعي مخاطر الاستكشاف والظروف الجيولوجية والطبوغرافية لمناطق الحقول وكذلك البنى التحتية المتوفرة للصناعة النفطية وحجم الانتاج النفطي ونوعه, وصولا الى تقديرات واقعية تتجاوز التقديرات المتدنية التي وردت في جداول قانون الموازنة, على الأخص بالنسبة لكلف الانتاج والتي تعادل نصف التقديرات التي قدمتها وزارة الثروات الطبيعية في الاقليم. حيث أصبح تقدير كلف الإنتاج والنقل العقبة الرئيسة أمام استئناف تصدير النفط طوال الفترة الماضية, رغم تبادل العديد من المراسلات الرسمية والزيارات المتكررة للوفود الرسمية.
توقف تصدير النفط
ألحق توقف تصدير نفط الإقليم خسائر مالية جسيمة بأطراف عدة, أولها الاقتصاد العراقي والايرادات العامة التي خسرت عوائد لنفط كان بالامكان تسويقه في هذه الفترة. وعند احتساب معدل تصدير 400,000 برميل يوميا و بمعدل سعري 70 دولار للبرميل الواحد (وهو الرقم المثبت في قانون الموازنة), تكون الخسائر اليومية لتوقف التصدير 28 مليون دولار, أي 840 مليون دولار شهريا و أكثر من 10.2 مليار دولار سنويا. وحيث أن مدة توقف تصدير والمستمر لحين كتابة هذه السطور تتجاوز الـ 22 شهرا، فيصبح بذلك اجمالي الخسارة المالية أكثر من 18 مليار دولار.
الخاسر الثاني هي الشركات النفطية الأجنبية العاملة في الاقليم والتي أستثمرت في الصناعة النفطية (الإنتاج والنقل) عشرات الملايين من الدولارات لإقامة قاعدة وبنية تحتية صناعية للنفط والغازفي الإقليم. هذه القاعدة الصناعية, ورغم محدوديتها مقارنة بمثيلاتها في جنوب العراق, تمثل ركيزة داعمة للاقتصاد العراقي النفطي. ومن غير المستبعد أن تقوم بعض الشركات النفطية المتضررة باقامة دعاوى قضائية لدى المحاكم التجارية الدولية للمطالبة بتعويضات من الحكومة العراقية عن خسائرها طوال مدة توقف الانتاج والتصدير.
وفي الجانب التركي, هنالك أيضا العديد من الشركات التي تخسر جراء توقف التصدير, ونقصد بها الشركات التي تعمل في تشغيل وصيانة الأنابيب ومحطات الضخ وتلك التي تعمل في التحميل والخزن والتفريغ في ميناء جيهان التركي. وهذه الشركات تستحق, وبموجب اتفاقية الأنبوب العراقي التركيITP ,غرامات على الجانب العراقي جراء توقف التشغيل والضخ عبر خط الأنابيب.
مقترح لتعديل قانون الموازنة
تقدمت الحكومة العراقية قبل نحوشهر بمقترح أرسل للبرلمان لتعديل المادة 12 من قانون الموازنة العامة والتي تتعلق بأحتساب كلف النقل والإنتاج لنفط الاقليم عن طريق الاستعانة بجهة استشارية فنية دولية متخصصة تضع تقديرات عادلة لكلف الانتاج والنقل لكل حقل من حقول الإقليم. وهذا التعديل المقترح للمادة 12 سيكون كفيلا بكسر حالة الجمود في ملف إعادة التصدير وإيقاف خسائر كبيرة ومستمرة في الإيرادات العامة. وقد صوتت اللجنة المالية على التعديل الذي قدمته الحكومة يوم الاحد 19-1-2025 و أوصت بوضع خطة مدروسة بشأنها. غير أن ممثل الحكومة في البرلمان تقدم بمقترح مغاير دون الرجوع الى رئاسة الحكومة ودون اعلام حكومة الاقليم مما عقد المشهد وتطور الى خلافات بين كتل البرلمان انتقلت سريعا الى وسائل الاعلام. بعدها صدر بيان من حكومة الاقليم مبديا الاسف على عدم اقرار التعديل بالصيغة المتفق عليها بين الحكومتين وبشكل يتعارض مع قرار مجلس الوزراء السابق. وخلق ذلك ذريعة لتأخير المصادقة على التعديل.
وسيؤدي استمرار الخلافات بين البرلمان والحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم بشأن تعديل المادة 12 من قانون الموازنة الأتحادية الى تعطيل تمرير الموازنة وتنفيذ موازنة العام 2025 وعرقلة تمويل النفقات التشغيلية والاستثمارية وربما الى توقف تنفيذ مئات المشاريع التي تسارعت مؤخرا, فضلا عن خسارة لعوائد مالية لاتقل عن 28 مليون دولار يوميا.
نتأمل أن يتعامل البرلمان الموقر بروح المسؤولية وأن يعجل في المصادقة على المقترح الحكومي والذي صيغ بعد استشارة خبراء وفنيين واقتصاديين في وزارة النفط. والمهم في التعامل مع المواضيع الاقتصادية والمالية التي تحال للبرلمان لاصدار التشريعات بشأنها أن تراجع بمهنية و روح وطنية بعيدا عن التجاذبات السياسية والأجندات الداخلية والخارجية التي قد لا تخدم المصلحة العامة ولن تحقق نفعا مستحقا لاقتصاد البلاد وشعبها .