قلب شاغر لصدق المشاعر/2

 

صبحة بغورة

تمت مراسم الزواج وانتقل العروسان للعيش في أرقى أحياء المدينة/ واستلم مالك منصب عمل محترم في شركة والد زوجته، فتغيرت حياته سريعا للأفضل، وبعد سفر ممتع عاد العروسان لتباشر نيهال عملها بالجامعة، وهناك التقت زميلاتها بعد فراق طويل واخبرتها أنه تزوجت حديثا، تعجبت زميلاتها من أمرها حيث لم تلاحظ عليها ما يبدي جمال وفرحة المرأة بعد الزواج، بادرتها نيهال بعفويتها الممزوجة بالتفاخر أن زوجها لا يحب كثرة المساحيق والمبالغة في الزينة ويفضل البساطة، لم تقتنع زميلتها بالكلام وابتسمت ابتسامة خفيفة تحمل معاني خبيثة، لقد وثقت نيهال في صدق مشاعر زوجها وكان بالنسبة لها مثالا.

 

شعرت نيهال ذات يوم بوعكة استدعت أن يرافقها زوجها إلى الطبيبة، وعنده علمت أنها حامل، انفجرت فرحتها من فرط سعادتها التي لا توصف، ولكن لم تر نفس الفرحة في عيون زوجها، شكّت أن يكون هناك ما يزعجه فكان رده الصادم أنه لم يعد نفسه بعد ليكون أبا، كان يأمل أن يتمتعا ببعضهما ويستمتعا بحياتهما زمنا أطول،، طمأنته بكل الود أن لا شيء سيتغير فظروفهما جيدة ولا تستدعي عناء كل هذا التفكير.

مرت الأيام، وعادت نيهال مجددا إلى الطبيبة تشكو من انتفاخ غريب في ثديها، نصحتها الطبيبة أن تؤجل الفحوص إلى ما بعد الولادة حيث لم يبق أمامها سوى بضعة أيام فقط، كان أمر الانتفاخ الغريب محل قلق أهلها ولكن لم يكن كذلك بالنسبة لزوجها، لم ينزعج ولم يهتم كثيرا للأمر، التمست نيهال له العذر فقد يكون ضغط العمل وكثرة أسفاره وراء هذا التغير. أنجبت نيهال ولدا وكان شديد الشبه بأبيه، وسعدت وأهلها بالمولد كثيرا، وبقدر هذه السعادة كانت صدمتها بعد اطلاعها على نتائج الفحوص العاجلة التي أجرتها دون تأخير، إنها مصابة بسرطان الثدي ولا بد من استئصاله، لم تستطع إرضاع صغيرها، ولم تتمكن من البقاء بجواره طيلة فترة الفحوص المرهقة والعلاج الطويل التي قضتها معزولة بالمستشفى حيث بقت وحيدة، تعاني مواجهة اجتياح طوفان صقيع ملون بالخداع المفروش بخيوط العنكبوت وزيف المشاعر الرمادية، لم يزورها زوجها مرة واحدة منذ علم أنها معرضة لاستئصال ثديها، وبئس ما تعلل بكثرة الأعمال برغم أن والدها كان يخبره أن ابنته بحاجة إلى وجوده بجوارها وقريبا منها، تفطن والد نيهال لخبث ونفاق مالك بعدما أبان عن طمعه أن يتكفل والد زوجته بفضل علاقاته الواسعة بمعالجتها، فقرر أن يخصص من يراقب تصرفاته وحركاته داخل وخارج المصنع.

لم يدم الأمر طويلا حتى أحست نيهال في لحظة انفراد بفكرها أن انقطاع زوجها عن زيارتها قد قتل فيها براءة مشاعرها الغضة المتخمة بالحياء، وقضى على رومانسية روحها العذراء، واغتال العفوية الراقدة بين خلجات أحاسيسها وذبح البشائر الراقصة الني كان يعدها بها، هل يستلذ بمرارة مرضها؟ هل يرضيه الحزن الساكن بعينيها المتعبتين؟ أكاذيب سوداء عاشتها معه، شعرت أن نواياه كانت عارية من نبل الحقيقة الصادقة، وإن المشرط البارد الصدئ استأصل حبها قبل ثديها، أقبل عليها والدها يتأمل نظراتها المنطلقة من فجوات العيون الغارقة في اليأس، وجسمها كيف صار ضعيفا، وهيكلا هزيلا ملثما بالأكفان الصفراء والندم المخضب بعطن الموت، استمر علاجها طويلا حتى نجت من المرض فتكا ومن الموت قهرا على ما كان، وبقي لها والدها سندها الذي سخّر من أجلها كل علاقاته ليضمن لها السفر لمواصلة العلاج بالخارج، وعمد قبل ذلك من تجريد زوجها من كل صلاحياته ومسؤولياته المالية بالمصنع،ولكن مالك كان كل ما يهمه أنه مازال يتمتع بالرفاهية التي يقدسها على كل شيء آخر.

قضت نيهال فترة علاج تكميلي وأيام نقاهة ناجحة،ووجدت بعد عودتها ابنها”سرور”قد كبر ولم يكن قد رآها من قبل بما يكفي كي يتذكرها، أوصت والديها أن لا يخبرا زوجها بعودتها فقد قررت أن تذهب إلى بيتها تتفقده، فتحت لها باب البيت شابة شقراء جميلة في العشرين من عمرها،وجدتها حامل، سألتها من تكون، فأخبرتها أنها زوجة مالك ! وبدورها سألتها الشابة الشقراء:وأنت،من تكونين؟ فأخبرتها أنها جاءت تسأل عن صديقة لها اسمها نيهال تسكن في هذا المنزل، وافقتها الشابة الشقراء بإيماءة خفيفة برأسها وأضافت إنها ماتت.. ومالك هو صاحب هذا البيت. كان كابوسا ثقيلا يكتم أنفاس نيهال ويخنقها، وهكذا تحجرت الآمال المرجوة على خشبة المستحيل وشعرت بنفسها مسكينة تنظر إلى جثتها التي قتلت بطيبة قلبهاوحسن نيتها وبفعل الأكاذيب وبظلم من صدّقت أنه أفضل زوج وبأنه كان جائزة الدنيا الكبرى لها، لم يعد حبها كما كان، أصبح كغريب دخل مدينة في وقت متأخر من الحياة، لقد اغتال أحلامها وعيشها وحبها له والآن يسلبها رغبتها في الحياة، لكنها قررت أن تستحضر القدرة والثقة بنفسها التي أودعها والدها فيها منذ صغرها، عزمت أن لا تستسلم أمام احتضار أحلامها، يكفيها وجود والديها بجانبها وابنها سرور الذي تنتظرها معه حياة طويلة، لن تستسلم لدموعها الصامتة ولا لسواد كوابيسها، ستمضي في الحياة من أجل كل من أحبوها.

 

عادت إلى بيت والديها وأخبرتهم بما كان، وكان أبوها على علم مسبق بأمره منذ الأيام الأولى من مرضها بل وأخبرها أنه كان يحاول كثيرا معه كي يكتب البيت باسمه، ولكنه أرجأ الموضوع لحين تمام شفائها وعودتها سالمة،فبيدها وحدها اتخاذ القرار، وقررت نيهال بيع البيت والسيارة التي في حوزته، واللجوء للقضاء لطلب الطلاق أو الخلع، لم تعد تريده في حياتها، وابنها سيبقى في رعايتها، قام والدها على الفور بكل الاجراءات اللازمة دون أن يلجأ إليه، ثم قرر الاستغناء عن خدماته بالمصنع، وفي قمة صدمته وجد نفسه في لحظة بدون عمل ولا بيت ولا أسرة، لجأ إلى بيت أمه الذي رفض يوما أن يسكنه، إنه الآن يعود إلى الصفر، أما هي فقد أصبحت أكثر وعيا ونضوجا وإشراقا، امرأة صامدة تضع الكحل بعينيها وأحمر الشفاه القاني، وتمشط شعرها المسدول لتداعبه نسائم الصباح وتتعطر بأفضل العطور، تنسى ما مرت به من غدر وخيانة وترمي خلفها تراكمات الكآبة والبؤس، تصم أذنيها عن أكاذيب وافتراءات البشر، تدفع أحزانها إلى ركن قديم منسي، تتحداه بنظراتها الواثقة وهو يتبعها بسيارته الأجرة القديمة، يرجوها أن تعود إلى حياة سبق أن رماها بعرض الحائط، إنها تتحداه بثقتها في نفسها وقوة شخصيتها، إنها الآن الدكتورة المنتصرة على خشبة الحياة، تغني مع الطيور وترقص على إيقاع الأمطار، مودعة الماضي، متأنقة للقادم، تواصل حياتها بنفس جديدة وبإنسانية ستبقى دوما جميلة في القلب والروح.

قد يعجبك ايضا