لا شكّ، أن هناك لحظات وظروف وتحدّيات في حياة الإنسان – أيّ إنسان في العالم – أفراداً أو جماعات أو دولاً، تتحوّل إلى اختبارات قاسية ومُرّة؛ لتمييز الوهم عن الواقع، أو الخيال عن الحقيقة، للتفريق بين الوهم والواقع وأيّهما الترياق للإنسان، أيّهما الألم وأيّهما الأمل، أيّهما يحمي وأيّهما يدمر.
في رواية «إثرَ واجم»، للروائية والشاعرة الكوردية السورية، مثال سليمان – الصادرة عن دار «نوس هاوس» للنشر والترجمة والأدب، عبر مائة وأربع وستين صفحة – هناك شخصيتان روائيتان مثقّفتان ومفكّرتان، تتفاعلان وتتواصلان، عبر حوارات ذاتية فكرية أدبية وفلسفية، تؤكّدان أن الواقع الراهن في مجمل الشرق الأوسط، ما هو إلا نتاج طبيعي لتراكم أحداثه وممارساته وأفكاره التاريخية وأوضاعه الراهنة، أو ماضي الإشكاليات الراهنة، والكيفية التاريخية، التي نبتت فيها، ونتجت عنها كلّ هذه الحروب والآلام والخسارات المتلاحقة، والفوضى الكبيرة، التي لا تبدو أن لها نهاية نهائية أو قريبة.
إن قدرة كَابار وخاتون (بطلا العمل الروائي)، على قراءة الحاضر القاسي ومساراته ومآلاته ومحدّداته، كانت صعبة وغير متكافئة، لكن تبقى منهجية الفكر والبحث عند كليهما ركيكة أو غير عميقة في البداية، لتتطوّر وتتأصّل في إدراك التراكم التاريخي للإشكاليات الذاتية والمجتمعية. يحاول كلّ من كَابار وخاتون إيقاظ الأسئلة العميقة النائمة «ألا توافقني أن الوهم قد يكون ملجأً حين يصبح الواقع قاسياً؟»، هنا تحاول خاتون أن تعطي أهمية للوهم؛ وأنه الترياق، أو نوع من الحماية، يضمن أماناً واستقراراً جزئياً، فيحمي القلب من قسوة الحياة وفوضاها، فتعود لتستيقظ من هفوتها، فتؤكّد أن الوهم أشدّ قسوة من الواقع؛ فهو يصنع حياة مبنياً على آمال ووقائع خادعة. أسأل نفسي هنا: هل خاتون تعاني من «الرضا عن الذات»، وهو اضطراب نفسي، حيث يتوقّف لديها امتلاك الحسّ النقدي واليقظة المتّصلة، أم أنها تعاني من اضطراب الاغتراب عن الواقع؟
يعود صديقها كَابار – معارضاً فكرتها/ قناعتها، غير مقتنع بها – رامياً سؤالاً في وسط النقاش «هل حقّاً نحن بأمان؟ أليس الأجدر أن نواجه واقعنا حتى لو كان قاسياً؟»، ليوضح من خلاله، أن نظرتها للوهم ناقصة وغير عملية؛ ليقول في الصفحة الرابعة والثلاثين، من الفصل الذي استوقفني بعمق «وإن غفى الضباب في كفّ الرماد؟»: «عندما نصنع لأنفسنا عوالم وهمية، نبتعد عن الحياة الحقيقية، ونغرق في حكايات زائفة، هذا الحروب قد تدمّرنا ببطء»، لتسأل خاتون في نفس الصفحة: «ماذا لو كانت مواجهة هذا الواقع أمراً مستحيلاً؟»، فيعلل كَابار: «وهنا، نقع في فخّ الوهم! حين يصبح الوهم ملاذاً، يصبح كالسمّ الذي نتجرّعه ببطء، حتى نتعوّد عليه ونستسلم له. ألا تذكرين قول الفيلسوف ديكارت عندما قال: أنا أفكّر إذاً أنا موجود؟ التفكير يعطينا القدرة على التفريق بين ما هو واقعي، وما هو وهم».
وقبل الدخول إلى تعمّق خاتون، لفكرة الخيال والوهم، سأستحضر هنا، قصة قديمة، تُروى في الآداب العالمية، في داخلها رسائل ومآلات قيّمة، عن أمير يعيش في أحد البلاد البعيدة، كان قد منح ابنته هدية في يوم زفافها، عبارة عن عقد ذهب مرصّع بالزمرّد، لكن ابنته، في خِضمّ حفل الزفاف، أضاعتِ العقد، فدخلت في حزن واكتئاب شديدين، ليقوم الأمير بمنح جائزة ثمينة لمَن يعثر على العقد. مرّتِ الأيام، ولم يُعثر على العقد من قبل أحد، لكن راعي غنم، وهو يسير بقطيعه على المراعي القريبة، قرب جدول ماء راكد، نظر إلى الماء صدفة، وإذ به يلمح عقد ذهب في القاع.
مدّ يده لالتقاط العقد، لكنه يتعثّر، وفي كلّ محاولة يضع يده في الماء كان يتعثّر ويختفي العقد، وكلما تمعّن الماء كان العقد يلتمع، وقرّر في نهاية المطاف بعد محاولاته الكثيرة واليائسة، أن يغطس في الجدول لعلّه يلتقط العقد، لكنه خرج متعثّراً حزيناً منهكاً يائساً.
وبينما يلتحف يأسه وحزنه، وإذ بعجوز حكيم يسير قرب الجدول، يتأمّل السماء والطبيعة من حوله، فوقع بصره على الراعي المنهك المُلقى على الأرض، فسأله العجوز عن هذا التمدّد الغريب على الأرض، فقال الراعي بعد إلحاح من العجوز: إن عقد الأميرة المفقود يوم زفافها موجود هنا في قاع هذا الجدول، لكنني أتعثّر في انتشاله من الماء، ولا أعرف سبب ذلك. فردّ العجوز بحكمة: يا بُني، أراك تهلك نفسك، لأنك تنظر وتبحث في المكان الخطأ، انظر إلى ذلك الغصن من الشجرة، فالعقد معلّق عليه، وما تراه في الماء، ليس إلا وهماً.
تعود خاتون، لتردّ على كَابار، فتخرج عن سياقات الموضوع، على غفلة منها، أو ربما متقصّدة ذلك، وهو أن ما قصده ديكارت لربما يعطي الإنسان القدرة على الحلم، فالأحلام جزء من التفكير، وما
الخيال إلا ملاذ الروح حين تشعر بالضياع «أحلامنا هي التي تجعل الحياة قابلة للتحمّل، تمنحنا الشجاعة لنعيش، حتى وإن كانت مجرّد أوهام».
هناك فارق كبير – وأوكّد على رؤية كَابار/ مثال المثيرة – بين الخيال والوهم، فالخيال أحد أسس الإبداع، بمخيّلتنا نخلق صوراً أو أحداثاً وقصصاً واقعية ورمزية، فكلّ إنسان يمتلك قدرات تخيلية بدرجات متفاوتة، وخاصة الإنسان الإنطوائي، الذي يكون واسع الخيال وكثير الإبداع، فيما الوهم يتملّكه حافز من البيئة، يجعل الإنسان يتوهّم صورة معيّنة أو أصواتاً داخلية أو يشمّ سكينة ما. والفكر الفلسفي يعرّف الوهم بأنه معتقدات خاطئة، تحيد الإنسان عن الواقع «الخيال يجعلنا نصعد للأعلى، بينما الوهم يجعلنا ندور في حلقة مفرغة. الخيال يبني الطموح، يزرع فينا بذور التغيير، أما الوهم فيسلبنا الشجاعة، ويجعلنا نتجنّب مواجهة الحياة»، هكذا يردّ كَابار، في الصفحة الخامسة والثلاثين.
يرى الفيلسوف والكاتب الفرنسي فولتير، أن الوهم يحتلّ صدارة كلّ المُتع وأشكال السعادة.، أما دوستويفسكي، فيقول عن الحقيقة الصادقة أنها دائماً ما تكون غيـر قابلة في أن تُصدّق، فلماذا لا ترغب خاتون في سماع الحقيقة من كَابار؟ ألأنها لا تريد أن ترى أوهامها تتحطّم؟ هل تحاول مطاردة الأوْهام/ أوهامها، لتكتشف في نهاية الفصل أن أوهامها ما هي إلا أوهام خادعة ابتلعت روحها وشبابها؟ أم أن كلّ ذلك محاولة من مثال سليمان عبر سردها وشخصياتها لنقد الأفكار والأفعال السائدة والشكّ في القناعات الهشّة وغربلة الموروث والتاريخ غير الصريح والغامض، لتحرّر العقل الكوردي والسوري من أوهامه وخُرافاته وأكاذيبه ومعتقداته، وتقرّبه من الحقيقة والإبداع الفكري، رغم حاجة الإنسان أحياناً إلى أوهام ذاتية وفكرية وثقافية كوسيلة تكيّفية مع حقائق صادمة «نحن نتألّم بالوهم أحياناً، لكننا نتألّم بالحقيقة أكثر».
يرفض كَابار تلك المقارنة «وما الجرح الذي لا يلتئم؟ الألم الحقيقي قد يكون مصدراً للقوّة إذا نظرنا إليه بعيون الحكمة. في حين أن الألم الوهمي مجرّد طعنة من صنع خيالنا»، لتؤكّد خاتون أخيراً وتعترف أن خطورة الوهم كبيرة وعميقة مقارنة بقسوة الواقع وظلمه، داعية إلى حالة من التوازن في الأفكار والتسليم بها، التوازن بين الحقيقة والوهم، بين الحلم والواقع، بين الوهم والواقع، بين الحلم والوهم، بين الخيال والوهم، التوازن بين ألم
الوهم وأمل الواقع، بين مصائد الوهم وملاذات الحقيقة، بين بناء الطموح وسلب الشجاعة.
قليلون من البشر، مَن يعيشون في حالة توازن مع الذات، والاستمتاع بالخيال والأحلام، والاستماع إلى الواقع وتقبّله، وتغيير النفس به نحو السكينة والأمان، دون التعلّق في مغريات الوهم، فالتعمّق في الأفكار واختيار تصديق الحقيقة السليمة الجميلة والقريبة من الروح والقلب يساعد المرء في التفريق بين الحقيقة والوهم «إن كلّ حلم مهما بَدَت ألوانه ذاهية له جانباً خفياً من الوهم، وأن كلّ وهم مهما كان مؤلماً، يحمل في عمقه بعضاً من الحقيقة».
إن الاصطدام بالواقع والحقيقة – حين البلوغ والنضوج – يفتح أمام الإنسان آفاقاً وجسوراً واسعة، تفكّك وتُظهر الكثير من القناعات والأفكار والسلوكيات كان يأخذها كمُسلّمات، مثلما حدث مع خاتون، وهي امرأة في الأربعين، تبحث في خطوط تجاعيدها عن ملامحها وشبابها وأحلامها، تتأمّل بقاياها مع السنوات الفائتة «هل كنت أعيش في خيال، أم كان هذا وهم؟ هل كلّ هذا العمر وما عشته من أحلام هو الحياة ذاتها، أم أنني نسجت خيوطها في عتمة الروح خائفة من الحقيقة؟».
الخيال، هو أداة أو استعارة أو نوع من أنواع الأدب، يختلق الصورة في الأعمال الأدبية، هذه الصورة التي هي أساس النصّ الأدبي، وعلامته الفارقة في تحويل الكلام المباشر والنمطي إلى كلام يحمل قيمة وأبعاداً أدبية، فمؤلّفة «إثرَ واجم» تمسك بمخيّلة القارئ، وتُدخله إلى عالم آخر، مختلف وجديد عن العالم الذي يتّصل به عن طريق الجسد، تقوم مثال سليمان بعملية مزج عسيرة بين الأفكار والحقائق والصور والذاكرة، تجعله يمرّ في صمت رهيب ومراحل صعبة، تحاول معه أن تتجاوز كلّ ذلك بالخيال والفكرة، في رواية، لربما تشبع ذائقته