عزالدين ملا
تحوّلت سوريا، وبعد أربعة عشر عاماً من الثورة السورية إلى أزمة عانى خلالها الشعب السوري القهر والحرمان والدمار والتشرد، تجد نفسها أمام مفترق طرق حاسم حيث يواجه المجتمع السوري تحديات عميقة ومعقدة تتطلب إصلاحات جذرية في مجالات عدة منها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ومن أجل تحقيق التحوُّل المستدام في البلاد، يتطلب الأمر نهجاً شاملًا يعترف بتنوُّع سوريا، ويسعى إلى إصلاحات تعزّز الوحدة الوطنية والمساواة والعدالة. في هذا السياق، لا يمكن إغفال التحديّات الهيكلية التي تعرقل عملية إعادة بناء سوريا، والتي تنبع من آثار العقود الطويلة من الاستبداد من جهة والقمع والفوضى الناتجة عن الأزمة من جهة أخرى. وتحليل هذه التحديات يضع سوريا في سياق أكبر من مجرد إعادة الإعمار المادي، بل يمتد إلى تصحيح مفاهيم الهوية الوطنية والعدالة الاجتماعية ودولة القانون.
سوريا الآن أمام تحديات سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية، والتي بدون تجاوزها لن تستطيع النهوض نحو مستقبل أكثر استقرارا وأمانا. وهنا سأتحدث عن هذه التحديات بشيء من التفصيل.
نبدأ من التحديات السياسية وأهمها غياب ثقة مكونات المجتمع السوري في النظام السياسي، فبعد أكثر من خمسين عاماً من الحكم الاستبدادي، أصبح النظام السياسي السوري فاقداً تمامًا للثقة لدى فئات واسعة من الشعب. سياسات النظام السابق خلال سنوات حكمه الطويلة كرّست الهيمنة الأمنية والعسكرية على الحياة السياسية، وأضعفت مؤسسات الدولة، بما في ذلك البرلمان والقضاء والإعلام. وحتى بعد انتهاء الصراع العسكري في العديد من المناطق، لا يزال الشعب السوري يشكك في قدرة النظام على تلبية تطلعاته نحو دولة ديمقراطية تحترم الحقوق الأساسية. عملية الانتقال السياسي، إذا كانت حقيقية، تتطلب إصلاحات جذرية في هذا النظام، بما في ذلك إنشاء مؤسسات مستقلة وشفافة، وفتح المجال للتعددية السياسية.
والتحدّي السياسي الثاني، العمل على المشاركة السياسية لجميع الفئات، لأن أي عملية سياسية في سوريا المستقبل يجب أن تتعامل مع مسألة المشاركة السياسية لجميع مكوّنات المجتمع السوري. فالنظام السوري السابق كان دائمًا يعتمد على تقسيم المجتمع إلى حلفاء وأعداء، وتبنّي سياسات لمصلحة فئات معينة على حساب الآخرين، مثل السنة والكورد والمسيحيين والدروز. لكن المستقبل يتطلب إنشاء نظام سياسي يعكس التنوُّع الحقيقي للمجتمع السوري ويضمن تمثيلاً عادلاً لكلّ المكوّنات، بدءاً من القوى المعارضة وصولاً إلى الكورد والأقليات العرقية والطائفية الأخرى.
والتحدي السياسي الآخر، هو التدخلات العسكرية والسياسية الدولية، من قبل قوى إقليمية ودولية، قد تعقّد العملية السياسية في سوريا. فروسيا وإيران، اللتان كانتا تدعمان النظام، والولايات المتحدة وتركيا اللتان تدعمان مجموعات معارضة، تُشَكّلُ جميعها أطرافاً خارجية تسعى لتحقيق مصالحها في سوريا. تدخل هذه القوى الدولية لم يقتصر فقط على الدعم العسكري، بل شمل أيضاً فرض رؤى سياسية وحلول غير شاملة تساهم في استمرار الانقسام الداخلي، مما يجعل التوصل إلى حل سياسي شامل أمراً بالغ التعقيد. سوريا المستقبل بحاجة إلى التوصل إلى توافق داخلي حقيقي، بعيدا عن المصالح الخارجية.
وفيما يتعلق بالتحديّات الاجتماعية، وتعتبر الهوية الوطنية السورية أهمها، ومن أحد أكبر التحديات في سوريا المستقبل هو بناء هوية وطنية جديدة تشمل جميع مكونات الشعب السوري. على مدار عقود، عمل النظام السابق على ترسيخ هويات طائفية وعرقية ضيقة، وعزز الانقسامات بين الجماعات المختلفة. الأزمة السورية عمّقت هذه الانقسامات بشكل كبير، فالسوريون أصبحوا أكثر تشرذماً من أي وقت مضى، بين عرب وكورد، سنة وعلويين، مسلمين ومسيحيين. بناء الهوية الوطنية يتطلب جهداً طويلاً لإعادة بناء العلاقات بين هذه المكوّنات بشكل يتجاوز الخلافات الطائفية والعرقية. يجب أن يركّز بناء الهوية على المواطنة المشتركة التي تحتفل بالتنوع وتعزز الوحدة.
والتحدي الاجتماعي الثاني، الصدمات النفسية والاجتماعية حيث أن المجتمعات السورية تعرّضت لصدمة نفسية جماعية نتيجة لعقود من القمع، ثم سنوات من الحرب والنزوح. ملايين السوريين يعيشون مع آثار العنف والتهجير والتعذيب. التأثير النفسي لهذه الصدمات قد يستمر لعقود، ويحتاج إلى برامج شاملة للحد من آثارها، مثل العلاج النفسي، إعادة التأهيل الاجتماعي، والدمج بين المجتمعات المختلفة. العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية تشكل أداة أساسية في معالجة هذه الصدمات، لكن من الضروري أيضا أن تُضمن هذه الإجراءات على مستوى المجتمع المدني والمؤسسات الاجتماعية لتخفيف المعاناة النفسية وتعزيز التفاهم المشترك.
أمّا التحدي الاجتماعي الثالث، فمشكلة الفجوات بين الأجيال، حيث أن جيلاً كاملاً من السوريين نشأ في بيئة مليئة بالاستبداد والاضطهاد، مما يؤدي إلى فقدان الأمل في المستقبل وضعف الثقة في المؤسسات الحكومية. بالإضافة إلى ذلك، هناك جيل آخر نشأ بعد الأزمة، يعاني من جروح عميقة، ولا سيما في المناطق التي شهدت أكثر الصراعات دموية. العمل على ردم هذه الفجوات بين الأجيال أمر بالغ الأهمية لبناء مجتمع سوري مستقر، يتطلب جهوداً مركزة على التعليم، التواصل بين الأجيال، والتأهيل الاجتماعي. كذلك، يجب معالجة التفاوتات في فرص الحياة بين السوريين داخل سوريا وخارجها، حيث يعيش العديد من الشباب في الشتات بعيدا عن الوطن.
وأيضاً، فالتحديات الاقتصادية لها الأولوية لإعادة بناء الدولة السورية، الدمار الشامل للبنية التحتية، حيث دمّر الصراع أكثر من سبعين بالمئة من البنية التحتية لسوريا، بما في ذلك الطرق والمدارس والمستشفيات ومرافق الخدمات الأساسية. هذه الخسائر الهائلة تتطلب خطة إعادة بناء شاملة. من دون توفير تمويل دولي ودعم تقني، سيكون من الصعب على إدارة السورية الحالية أو أي حكومة مستقبلية إعادة إعمار هذه المنشآت. ولكن الأهم من ذلك هو أن هذه العملية يجب أن تشمل تعزيز الاستدامة الاقتصادية، وتحسين إدارة الموارد المحلية، وضمان وصول عادل إلى الخدمات الأساسية لجميع المواطنين، في ظل تحديات اقتصادية كبيرة.
التحدي الاقتصادي الثاني هو الفقر والبطالة، كما نعلم ان الأزمة السورية أدّت إلى تفشّي البطالة والفقر، حيث أصبح غالبية السكان يعانون من صعوبة في تلبية احتياجاتهم الأساسية. إعادة بناء الاقتصاد السوري يتطلب إصلاحات شاملة في القطاع الاقتصادي، بما في ذلك إعادة هيكلة النظام المالي، تطوير استراتيجيات تنمية اقتصادية مبتكرة، وزيادة الاستثمارات في القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصناعة. كما يجب تحسين التعليم والتدريب المهني لضمان تمكين الشباب من الانخراط في سوق العمل.
أمّا التحدي الاقتصادي الأهم فهو الفساد، على الرغم من دمار البلاد، لا يزال الفساد سمة بارزة في العديد من القطاعات الحكومية. الفساد ليس فقط عاملًا مثبطًا للنمو الاقتصادي، بل يزيد من تعميق انعدام الثقة بين المواطنين والدولة. يجب أن تكون عملية إصلاح الاقتصاد الوطني مصحوبة بإصلاحات جذرية في مكافحة الفساد، من خلال قوانين محاسبة فعّالة ومؤسسات قضائية مستقلة تعمل على محاكمة الفاسدين.
علينا أيضاً ألا ننسى التحديات الأمنية، فإعادة بناء الأمن ضرورة ملحّة، سوريا بحاجة إلى إصلاحات أمنية جذرية تتجاوز النظام الأمني الذي كان قائمًا قبل الأزمة السورية وخلالها. يجب بناء قوات أمنية موثوقة تلتزم بالقانون وحقوق الإنسان. هذا يتطلب تجنب الاعتماد على القوات المسلحة التي كانت جزءًا من قمع الشعب، والتحول إلى قوة شرطة مدنية تعكس تنوع المجتمع السوري. ضمان السلام الداخلي يتطلب أيضا فك ارتباط الجيش ببعض الطوائف والفصائل، وتوفير بيئة آمنة للمواطنين في جميع المناطق السورية.
والتحدي الأمني الآخر، هو الجماعات المسلحة والجماعات المتطرفة، فبعد اسقاط النظام وتشكيل إدارة سورية جديدة، سيظل هناك تهديد من الجماعات المسلحة المتطرفة مثل تنظيم داعش، بالإضافة إلى فصائل مسلحة أخرى. القضاء على هذه الجماعات يتطلب دعماً خارجياً ومؤسسات أمنية محلية قادرة على التعامل مع هذه التهديدات. لكن يجب أن تتم هذه العمليات بعناية لتجنب تأجيج المزيد من الصراعات الطائفية والعرقية.
اعتقد أن بناء سوريا المستقبل يتطلب استجابة شاملة وعميقة لكافة التحديات التي تواجهها البلاد. إن الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مهما كانت ضرورية، لن تكون كافية إذا لم تصاحبها جهود مصالحة حقيقية، تقوم على العدالة والمحاسبة. على الرغم من أن التحديات قد تكون كبيرة، إلا أن سوريا تمتلك إمكانيات هائلة للنهوض مجددا إذا ما تم اعتماد إصلاحات جذرية وصادقة، واعتمدت الأطراف السياسية على مبادئ شاملة تركز على مصالح الشعب السوري ككل، بعيدا عن المصالح الضيقة.