الكورد أقدم سكان العراق وحق تقرير المصير

 

 

د. محمد العرب*

في خضم التحولات السياسية والثقافية التي شهدتها المنطقة على مدى القرون، تبرز حقيقة تاريخية لا يمكن تجاوزها: الكورد هم أقدم سكان جغرافيا ما يُعرف اليوم بالعراق ويعود وجودهم في هذه الأرض إلى آلاف السنين قبل ميلاد المسيح. هذه الحقيقة ليست مجرد ادعاء عاطفي أو تاريخي عابر، بل حقيقة مدعومة بأدلة وقرائن تؤكد أن الكورد ليسوا فقط جزءاً من العراق، بل هم أصله التاريخي والحضاري.

 

أصول الكورد تضرب بجذورها في شعوب قديمة مثل الميديين، واللولويين، والكاشيين، الذين أسهموا في تشكيل حضارات مزدهرة في شمال العراق والمناطق المحيطة. الميديون، على وجه الخصوص، أسسوا إمبراطورية قوية في القرن السابع قبل الميلاد، امتدت من شمال العراق إلى مناطق واسعة في الشرق الأوسط، وكانت عاصمتهم إكباتانا مركزاً للحضارة. تشير النصوص الآشورية والبابلية القديمة إلى دور هذه الشعوب في تشكيل المشهد السياسي والثقافي للمنطقة. الكورد، كامتداد عرقي وثقافي لهذه الحضارات، يمثلون استمرارية وجود عريق ومتجذر.

 

الآثار الأثرية في كردستان العراق اليوم تقدم أدلة دامغة على وجود الكورد التاريخي في المنطقة. المواقع مثل قلعة أربيل، التي تُعتبر واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، تُظهر أن شمال العراق كان مركزاً حضارياً منذ العصور القديمة. النصوص السومرية والآشورية تذكر مناطق كردستان كجزء من الأراضي التي سكنتها شعوب ذات خصوصية ثقافية، وهو ما يُبرز الارتباط العميق للكورد بجغرافيتهم التاريخية. علاوة على ذلك، فإن اللغة الكردية، التي تنتمي إلى عائلة اللغات الهندو-أوروبية، تعكس تراثاً لغوياً متجذراً في عمق التاريخ، مما يربط الكورد بشعوب قديمة مثل الميديين والفرس.

 

مع تطور المنطقة ومرورها بمراحل من الحكم الإمبراطوري إلى العصور الإسلامية، ظل الكورد يلعبون دوراً بارزاً في المشهد السياسي والثقافي. شخصيات كوردية مثل صلاح الدين الأيوبي، الذي قاد الحروب الصليبية وأسس إمبراطورية عظيمة، تجسد التأثير العميق للكورد في التاريخ الإسلامي والعالمي. هذا التأثير التاريخي يعكس قوة الحضور الكوردي ودوره المحوري في مختلف الحقب التاريخية.

 

على الرغم من هذا الإرث التاريخي، عانى الكورد من محاولات تهميش مستمرة، خاصة بعد الحرب العالمية الأولى. اتفاقية سايكس بيكو قسّمت كردستان بين العراق، إيران، تركيا، وسوريا، مما حول الكورد إلى أقلية موزعة تتعرض للقمع والتهميش في كل مكان. هذا التقسيم لم يكن مجرد تغيير جغرافي، بل محاولة لتدمير الهوية الكوردية وتقويض حقوقهم كشعب أصيل في المنطقة.

 

كون الكورد من أقدم سكان العراق يمنحهم حقوقاً مشروعة وقانونية، وعلى رأسها حق تقرير المصير. وفقًا للقانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة، يُعتبر تقرير المصير حقًا أصيلاً للشعوب الأصلية، ويشمل ذلك الكورد الذين حافظوا على ثقافتهم وهويتهم رغم محاولات الطمس والتهميش. تقرير المصير يعني الاعتراف بالهوية الكوردية، وضمان حقوقهم الثقافية والسياسية وحقق تقرير النظام السياسي الذي يحكمهم وتمكينهم من إدارة شؤونهم.

 

لكن التحدي الأكبر يكمن في استمرار إنكار المجتمع الدولي والدول الإقليمية لهذا الحق. هذا الإنكار لا يمثل فقط خرقاً لحقوق الإنسان، بل هو أيضاً تجاهل لحقيقة تاريخية لا يمكن محوها. وإنكار دورهم يعني إنكار التاريخ نفسه.

 

الاعتراف بالكورد كشعب أصلي في العراق ليس مجرد قضية سياسية، بل هو واجب أخلاقي وتاريخي. هذا الاعتراف يتطلب خطوات عملية تبدأ بحماية حقوقهم الثقافية، وضمان مشاركتهم السياسية، وتمكينهم من إدارة مناطقهم بالطريقة التي يتوافقون عليها.

 

في نهاية المطاف، لا يمكن إنكار أن الكورد هم أقدم سكان العراق. هذه الحقيقة يجب أن تُترجم إلى سياسات تحترم وجودهم وتضمن حقوقهم. محاولة تهميش الكورد هي محاولة عبثية أمام صلابة الواقع التاريخي. حق تقرير المصير ليس مجرد خيار سياسي، بل هو استحقاق تاريخي وضرورة لبناء مستقبل قائم على العدالة والاحترام المتبادل. الكورد، بشخصيتهم الثقافية والتاريخية، هم حراس هذه الأرض وأحد أعمدتها الراسخة. أي محاولة لإنكار هذا الحق هي إنكار للإنسانية وللتاريخ ذاته.

 

*رئيس المركز العربي للأبحاث والرصد

قد يعجبك ايضا