د. توفيق رفيق التونچي
“هناك دوما شمسا ساطعة خلف الغيوم”
حكمة من مملكة الدنمرك
“There is always a bright sun behind the clouds.”
العمل الصالح والتوسع في فعل الخير احد اهم مبادئ جميع الأديان السماوية وتعتبر من ناحية أخرى الدستور الأساسي للإنسانية جمعاء. اماً الأعمال الشريرة فمعظمها تعتبر ضد الإنسانية ومتطرفة كما هي عليها قرارات إشعال الحرب وقتل البشر. الكتابة فوق الغيوم في طائرة تزن الآلاف من الأطنان تسبح في الفضاء كقشة مع الطيور المهاجرة إلى الجنوب باتت نمطا سلوكيا وعادة اتبعها في أسفاري من ناحية ومن ناحية أخرى اجد فيها متعة لطرد ضجر الوحدة في الرحلات الطويلة.
عزيزي القارئ الكريم، كلما سافرت بالطائرة اجد نفسي أمام حشد من الناس يقفون في طوابير يتزاحمون ويتدافعون وفي بعض الأحيان يطول الانتظار إلى ساعة كاملة رغم انه لا يسمح لهم بأخذ أماكن جلوسهم في مقاعدهم إلا بعد إتمام أعمال التفتيش وربما يقوم عمال التنظيف بأداء واجباتهم داخل الطائرة قبل صعود الركاب. هذا السلوك يتكرر في كل مرة أسافر فيه وفي معظم المطارات. هذا السلوك البشري في العجالة للصعود إلى الطائرة يتكرر حتى في النزول عند هبوطها ارض المطار . فهم اي هؤلاء ممن استعجلوا الركوب هم نفسهم يتزاحمون على النزول. الغريب أنهم يقومون من مقاعدهم حال هبوط الطائرة علىً المدرج ويتزاحمون رغم ان أبواب الطائرة لا تزال مغلقة. هؤلاء هم كذلك الأكثر ضجيجا في كلتا الحالتين وهم كذلك مجهدين تراهم دوما لا يجدون أماكن جلوسهم و فوضويين في الحديث بصوت مرتفع وامور أخرى كثيرة تنم عن حالتهم النفسية القلقة.
إن التفاؤل في الحكمة التي استهلت بها مادتي هذه لجديرة بالتأمل والتفكير ، قارئ الكريم . العجلة ليست المستحبة دوما اي ان خير الأمور ليس دائما في أسرعها تنفيذا لأنها قد تودي كذلك إلى الخطأ و من ثم الندامة وربما أقول ربما كي لا أكون ممن يطلق افكارا مطلقة غير قابلة للنقاش. ان الإنسان بطبيعته انعكاسي في ردود فعله الغير إرادية ولا يتمكن ان يحللها بل ينفذها دون اي تفكير كما في الغريزة الحيوانية في المحافظة على البقاء. لا ريب ان البشرية قد عاشت دهورا كان فيها الرجل بالدرجة الاولى مهددا دوما لأنه يعمل في خارج المنزل الكهوف او المغارات حيث بيئة فيها العديد من الحيوانات المفترسة وجعل من الأسد والفهود وصيدهم علامة قوة ومهابةً للملوك كما نشاهدها في جداريات الحضارات الرافيدينية القديمة حيث الصراع مع الأسود يعتبر قمة القوة والتحدي.
مع تطور البشرية تحول الرجال إلى حطب الحروب والنزاعات والصراعات القبلية. وكان عليهم تقديم حياتهم قرابينا في سبيل الملوك وأطماعهم الشريرة في الحكم والاحتلال المزيد تاركين خلفهم الأرامل والأيتام. كل ذلك ادى إلى تطور عقله الحيواني ويسمى دماغ الزواحف (Reptilian brain ) بحيث اصبح ردود فعله انعكاسية أمام المخاطر المحدقة به من كل الجوانب وللحفاظ على كينونته، وتقع في ناصية الوجه في الجمجمة. والناصية كاذبة حسب النص ألقرآني.
الصراع والمحافظة على البقاء رد فعل غير إرادي وأقوى من التفكير العقلاني. وهي مسؤولة عن جميع السلوكيات النمطية وخاصة العدوانية منها وهي اقدم اجزاء الدماغ. الوسطية اي التفكير المعتدل و الحر أليبرالي الذي يرفض تحديد الحريات ويطلقها (Liberalism) والعكس نراه في التفكير الجذري اي الراديكالي (Radicalism ) الرافض لأي خندق مقابل والمطلق.
هذا الأخير آفة حيث انه يحدد من السقف الفكري والمعرفي لأفراد المجتمع ولا يتقبل التعددية الفكرية او حتى التغيير. المصطلحان يسخدمان بكثرة . الاصطلاح الأول وجدته يستخدم بكثرة في المجتمع السويدي بين العامة بصورة عامة وبصورة خاصة في السياسةً حيث الحيادية التي تتبعها ألمملكة السويديةً ولم تدخل اي حرب منذ مائتا عام ونيف . هناك احزاب سياسية تفتخر بانها ليبرالية معتدلة وترفض تقيد الحريات تماما وطبعا هناك كلمة محددة تستعمل دوما شعبيا وتاتي بهذ المعنى اي كلمة ( Lagom) اي الاعتدال والوسطية لم اجدها في لغات أخرى حيث تستعمل كلمات أخرى مقاربة في المعنى هي كقولنا في اختيار الأمور الوسطى كما في ملائم البرودة او الحرارة وكذلك تمهل او تمهل قليلا، انتظر ، بهدوء وذلك في قولنا “خير الأمور أوسطها ” او كما في عكس ذلك بالقول “في العجلة الندامة”.
هذا الاعتدال في اختيار بين هذا وذاك يؤدي دوما إلى التفكير العقلاني الحكيم قبل اتخاذ اي قرار مما يؤدي كذلك إلى الاعتدال في السلوك البشري وعدم التسرع والندم لاحقا رغم ايماننا بالحكمة القائلة “خير البر عاجله”. الاعتدال كسلوك عام يشمل خاصة هولاء القادة من الحكماء “wise sensibl.” حين يتخذون القرارات القيادية وهي صفة لا تتوفر في جميع البشر.
تلك القرارات الحكيمة تمثل البر والعمل الصالح لكونها تعتمد على التأني والعقل خذ مثلا قرارا كإعلان الحرب فهو قرار جذري متطرف يتخذها فقط المجنون لأنه يأتي بالخراب ويجلب الدمار والموت ونتائجها المأساوية تعم على جميع الأطراف المتنازعة. لذا يعتبر من القرارات المجحفة بحق الإنسانية مهما كان السبب والمسببات. هنا تأتي أهمية الحوار والتأني في اتخاذ القرار بعد الدراسة والتحليل لنتائجه والجدوى من القرار ومن جميع النواحي دون تطرف او تسرع واحيانا يجب تقديم تنازلات للوصول إلى اتفاقيات تصالحية تخدم الجميع وتبعد شبح الحروب عن البشر والعمار.
هنا يأتي مصطلح آخر مهم وهو الإستراتيجية (Strategy ) وهي تخطيط مستقبلي عقلاني بعيدة المدى او قريبة لكنها قرارات مدروسة وتنفذ بجدولة زمنية وتعاد تقيمها وإجراء التعديلات لملائمة المستجدات والمتغيرات. تلك الاستراتيجيات تكون على الصعيد الشخصي واقتصاد على مستوى الفرد وأخرى وطنية ترسمها الدول والحكومات في سياساتها. على صعيد الفردي تكون العملية بسيطة خذ مثلا إذا نويت ان تحج السنة القادمة فيجب عليك اتباع تعاليم معينة ومراعاة شروط الحج وإمكانية اداء الشعائر والمناسك ومن ثم يجب ان يكون لديك المال الكافي او تقوم بتوفير تلك الأموال شهريًا إلى يوم حجك المبارك.
اماً استراتيجيات الدول فتكون ذو خاصية طويلة الأمد وأقرب مثال على ذلك نراه في الهدف الذي أعلنه الولايات المتحدة للوصول إلى القمر وتحقق ذلك بعد سنين لكن بإستراتيجية محددة وعلماء وباحثين ومهندسين ورجال فضاء ومال كافي خصص كميزانية للوصول إلى ذلك الهدف. يضاف إلى ذلك ان الاستراتيجيات تحتاج إلى تمويل ومخصصات مالية كبيرة يجب جدولتها في الموازنات السنوية الوطنية للدول او خططها المستقبلية . تلك المشاريع الإستراتيجية تنفذ في مراحل مع وجود التخصيص المالي (Budget ) الضروري لتنفيذ المشروع . هذه القرارات عقلانية وحكيمة وبعيدة عن الفوضوية والتطرف والتسرع في أخذ القرارات ومن الطبيعي نتائج إيجابية تجلب الرخاء إلى المجتمعات ودرجة نجاحها مضمونة كذلك.
خذ مثلا في دولة الإمارات المتحدة التي تحولت نتيجة للفكر العقلاني في القيادة من دولة صحراوية إلى دولة التمدن والتطور وخلال فترة قصيرة وهي اليوم تسعى إلى الوصول بالرقي إلى الأمام والتطور ولغزو الفضاء وإيجاد سبل جديدة للحياة من ناحية ومن ناحية أخرى السير بركب الدول المتقدمة في هذا المجال لإيجاد بدائل وربما مكان قدم حتى على المريخ في عالم يتسارع سباق الدول في غرس أعلامهم على سطح القمر باعتبار ذلك رمزا لملكية تلك الأرض وتلك بالتأكيد إستراتيجية بعيدة المدى سيستفيد منه الأجيال القادمة في المستقبل.
هذا التوجه المستقبلي السلمي احد سمات سياسة حكومة إقليم كوردستان الحكيمة حيث تحول الإقليم إلى ورشة عمل لبناء التحتي وإعادة تعمير كوردستان بعد سنوات من الحيف الذي وقع على الكردستانيين وكانت فيها شعبًا وأرضًا هدفا للقصف بالقنابل المحرمة دوليا واستخدام الغاز والأنفال والمقابر الجماعية والجرائم التي ارتكبتها الحكومات المتتالية بحق الشعب الكوردستاني
الأندلس 2025
إشارات؛
الصورة؛ التقطتها من شباك
الطائرة، على متن طائرة الخطوط الجوية الاسكندنافية SAS المتوجه إلى بلاد الأندلس.
. “Lagom” كلمة من اللغة السويدية تُترجم إلى “الكمية المناسبة” أو “الاعتدال” . والكلمة تعبر عن فكرة التوازن والبساطة وتجنب التطرف، وترتبط غالبًا بنمط حياة قانع ومستدام للناس.