في عنف السلطة المركزية

 

 

شفان إبراهيم

سقط نظام الأسد، وحصل السوريون على حريتهم التي دافعوا عنها منذ 14 عاماً، فقدوا خلالها الملايين من المواطنين، وتدمير مساحات كبيرة من المناطق والأحياء والقرى. غزارة الدماء والتضحيات والتكاليف البشرية والاقتصادية، تتطلب البحث عن نظام حكم وشكل دولة، يحميان الكيان السوري من الشطط والتقسيمات، خاصة في ظل خطب الكراهية، والعنف، ومخاوف الانتقامات… إلخ.

 

سيسعى كاتب الأسطر، لتقديم سلسلة مقالات، تُقدّم مقاربة حول أفضل السبل لعيش السوريين معاً، في دولة لا يتعدى مكون على الآخر، وتنتهي معها مهزلة الأفضلية والأولوية لهويّة وثقافة على أخرى، وإنهاء عقد التفوق التي لا تزال بعض الجماعات السياسية تلتف حولها، خاصة وأن عقل الثورة لا يبني دولة.

 

مقدمة

تغيرت أسباب الصراعات في القرن الحادي والعشرين. فهي تجاوزت قضايا المواجهات العسكرية، القومية والدينية، خاصة وأن جميع الدول الحالية في ما يُعرف بالعالم العربي، إنما هي دول حديثة النشأة، ولم يتم استشارة الشعوب فيها للعيش معاً، بعد التقسيمات الإدارية والسياسية الجديدة التي جاءت بها الاتفاقيات الدولية مثل سيفر ولوزان وسايكس بيكو.

 

وشكلت الذكرى المئوية لتلك الاتفاقيات، انطلاقة مفاهيم جديدة للصراعات في دول المنطقة والحقل السياسي والفلسفي والاجتماعي، أُطلق عليها اسم “الجيوفوبيا”، أيّ الصراع على الحدود، ونزعات تشكيل دول حديثة على أسس عرقية وقومية، ما عنى ذلك فهماً متغيّراً للتوازنات والعلاقات الإقليمية والدولية والمحلية. فتشكيل الدول سيعني زيادة الفاعلين الدوليين (الدول) وأصبح تغيير هيكلة النظام السياسي الدولي على حافة التشظّي الاستراتيجي. وسوريا ليست بعيدة عن كُل ذلك، فهي كيان مصطنع، لعبت الظروف التاريخية والسياسية والاتفاقيات الدولية دوراً محورياً في تشكيله.

 

غياب المفهوم الوطني منذ بواكير نشأة الدولة السورية

منذ استقلال سوريا عن الفرنسيين عام 1947، وخلال فترة الانقلابات وتشكيل الحكومات من أول انقلاب عام 1949 حتى فترة الوحدة مع مصر عام 1958 والانفصال عام 1961. واستلام اللجنة العسكرية للقسم الإقليمي لحزب البعث السوري عام 1963، والتي كان من نتائجها إلغاء الحريات السياسية وتعدد الأحزاب وقيام دولة الحزب الواحد في سوريا، فضلاً عن تطبيق قانون الطوارئ.

 

ثم انقلاب البعثيين على البعثيين بقيادة صلاح جديد عام 1966، وإلى انقلاب الأسد الأب عام 1970، والتي أسماها بالحركة التصحيحية، وسيطر على البلاد، وعملية سيطرة الأسد الابن على مقاليد الحكم بشيء يُشبه الانقلاب عبر تغيير الدستور خلال ساعات ليكون على مقاسه، وحتى ساعة سقوط النظام السوري في 8-12-2024، لم تشهد البلاد أيّ محاولة لبناء مؤسسات وطنية مشتركة.

 

في بلدٍ دمرته السياسات الحكومية واستبداد النظام، وما غذى ذلك كان النظام المركزي، الذي حرم المكونات والشعوب والقوميات من حقوقهم والاعتراف بهم، وسلبهم حقهم في المواطنة. وبات من العبث التفكير ببناء وطن مركزي وانتظار نتائج جديدة. وما يحصل حالياً من توترات ورفض المكونات والأطراف الجغرافية للدولة السورية من سيطرة لون واحد، أو مركز واحد للقرار، ما هو سوى إعلان قطعي برفض العودة للمركزية، إذ إن الحقوق لا تُأخذ عبر وعود وحديث منمق وجميل، وهو ليس سوى جهد ضائع ولا يؤدي إلى شيء سوى الإبقاء على سوريا في حالة توترات ونزاعات بلا نهاية.

 

تسلط المركز

يقول إريك فروم إن “التسلط مرض المعاقين نفسياً”. ووفق السياق التاريخي للدول العربية المركزية، فإن القوميات والأديان غالباً ما تعرضت للعنف والقمع، وفقاً للسياسات الشوفينية التي كانت غالبة على طباع الحكام، ومنها سوريا التي لم يشعر فيها الكثير من الجماعات بالانتماء والانسجام مع النظام والدولة.

 

فالجماعات السياسية والشعوب ذات القوميات والأديان الخاصة، غالباً ما أتبع المركز ضدهم سياسات هدفت لإنهاء وجودهم السياسي والقومي. وتمحور لُبّ الموقف الاضطهادي، بالرغبة في إنهاء الآخر المختلف، ونفي خصوصيته، بل والاستهزاء بتاريخه وثقافته ولغته، وكأنها دنس ينبغي أن يعفّر في التراب، واعتبار خصوصية المضطهد أنها استطالات خارجية وتآمرية، وقضايا غير وطنية.

 

مشاريع محلية ضعيفة وخارجية أقوى

ابتلاع القوميات عبر مصطلحات المساواة والمواطنة في دولة مركبة ومزقتها التراكمات والاحتقانات السابقة، والممارسات خلال 14 سنة لن تصل للدمج الطوعي، بل إلى طغيان الأغلبية في السياسة وطمس معالم وحقوق القوميات.

 

لذلك تأسست المشكلة في سوريا على جدلية: هل الهدف هو فرض قواعد ومعايير تشمل الجميع في لون ورتم واحد، أم صياغة قواعد مختلفة لأنواع متعددة من الشعوب في سوريا؟

 

قصارى القول: تطالب الشعوب والقوميات المتمايزة بالتعددية الثقافية والسياسية والقومية، وتتبنى الحقوق المشروعة التي كفلها القانون الدولي وشرعية الأمم المتحدة، وتتعارض مع المركزية. ولا مجال للحقوق في غياب الديمقراطية، ولا ديمقراطية في ظل تعنت دستوري بلون واحد.

 

لذلك فإن مشكلة الصراع العرقي العنيف والحاجة للعثور على طرق للتعايش غالباً ما تكون أكثر ضراوة في البلدان ذات المركزيات القوية التي تنفي عن الأطراف صلاحياتها ومؤسساتها.

 

قد يعجبك ايضا