الحوار بين أربيل وبغداد…. “هل تفتح زيارة نيجيرفان بارزاني الباب لحلول مستدامة؟”

خيري بوزاني*

في مشهد سياسي حافل بالرسائل والرمزية، شهدت بغداد، الأحد 12 فبراير 2025، زيارة مهمة قام بها رئيس إقليم كردستان، نيجيرفان بارزاني الى بغداد. زيارة تحمل دلالات كبيرة كونها تأتي في بداية عام جديد مليء بالتحديات، وتضع قضايا معقدة على طاولة الحوار بين أربيل وبغداد. هذا اللقاء لا يمثل فقط حدثًا اعتياديًا في العلاقات بين الحكومتين، بل يرمز إلى طبيعة العلاقة الشائكة بين المركز والإقليم، في ظل تباين المصالح والتوجهات.

من خلال جدول أعمال الزيارة، يتضح أن بارزاني يعكف على بناء جسر حوار شامل مع كافة الأطراف الفاعلة في بغداد. والتقى خلال زيارته، رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ورئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد، ورئيس البرلمان محمود المشهداني، إلى جانب رئيس السلطة القضائية فائق زيدان ورئيس المحكمة الاتحادية العليا جاسم محمد عبود. هذه اللقاءات تكشف عن محاولة بارزاني لإيصال رسالة واضحة: أن الحوار المؤسسي بين أربيل وبغداد هو السبيل الوحيد لمعالجة القضايا العالقة.
لكن الأمر لا يقتصر على المؤسسات الرسمية، بل يمتد ليشمل قادة الأحزاب السياسية الأكثر تأثيرًا، مثل هادي العامري، ونوري المالكي، وعمار الحكيم، مما يعكس إدراك بارزاني لأهمية الحوار مع القوى السياسية التي تتحكم فعليًا بمفاصل الحكم في بغداد.

جوهر هذه الزيارة يتمثل في السعي لحل القضايا الخلافية التي لطالما ألقت بظلالها على العلاقة بين الطرفين. من بين هذه القضايا، مسألة الميزانية ورواتب موظفي الإقليم في الصدارة. فمنذ عام 2024، تفاقمت أزمة الرواتب نتيجة الخلافات حول آلية توزيع الموارد المالية والنفطية بين أربيل وبغداد. وبحلول العام الجديد، لم تتمكن الحكومة العراقية من صرف رواتب شهر ديسمبر لموظفي الإقليم، مما زاد من حدة التوترات.
هذه الأزمة المالية تعكس أزمة أعمق تتعلق بمفهوم الدولة الاتحادية ذاته، حيث يرى الإقليم أنه يواجه تهميشًا ماليًا وسياسيًا، بينما ترى بغداد أن سياسات أربيل النفطية تعرقل تطبيق القوانين الاتحادية.

تمثل القضايا المطروحة خلال هذه الزيارة اختبارًا حقيقيًا للعلاقة بين أربيل وبغداد. فإلى جانب أزمة الرواتب، هناك قضايا أخرى لا تقل أهمية، منها تطبيق قانون الموازنة فيما يتعلق بتصدير النفط، وحل مشكلة المنافذ الحدودية التي تُعد شريانًا اقتصاديًا هامًا للإقليم، فضلًا عن المادة 140 المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها، وهي ملف لم يُحسم منذ إقرار الدستور العراقي عام 2005.

تأتي زيارة بارزاني في ظل تطورات إقليمية ودولية تعزز من أهمية الحوار الداخلي في العراق. فالعراق يواجه تحديات متصاعدة في محيطه الإقليمي، بدءًا من تأثيرات زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى طهران الأسبوع الماضي، وصولًا إلى الوضع المتدهور في سوريا. هذه التطورات تضع العراق أمام خيارين: إما تعزيز جبهته الداخلية عبر تحقيق توافق بين مكوناته، أو الاستمرار في حالة التشرذم التي تجعله أكثر عرضة للتأثيرات الخارجية.

على الرغم من الأهمية الكبيرة لهذه الزيارة، إلا أن تحقيق تقدم ملموس في الملفات العالقة يواجه عقبات كبيرة. فمن جهة، تعتمد بغداد على استراتيجية تتسم بالمركزية في إدارة الموارد، بينما يسعى إقليم كردستان للحفاظ على استقلاله المالي والإداري ضمن الإطار الاتحادي. ومن جهة أخرى، تتأثر قرارات بغداد بحسابات سياسية معقدة داخل التحالفات الشيعية الحاكمة، التي قد لا تكون مستعدة لتقديم تنازلات كبيرة للإقليم في الوقت الراهن.
لكن في المقابل، يحمل الحوار الحالي فرصة حقيقية لتحقيق تقدم، خاصة في ظل وجود حكومة عراقية بقيادة محمد شياع السوداني، الذي أبدى مرونة في التعامل مع قضايا الإقليم منذ توليه المنصب. كما أن مشاركة بارزاني في اجتماع ائتلاف إدارة الدولة تعكس نية الإقليم في الانخراط بشكل أكبر في العملية السياسية العراقية، بدلًا من الاكتفاء بدور المراقب أو الطرف المعترض.

تاريخ العلاقة بين أربيل وبغداد مليء بالدروس التي تؤكد أهمية الحوار كمخرج وحيد للأزمات. فعلى مدار السنوات الماضية، أثبتت المواجهات السياسية أن الحلول المؤقتة لا تكفي، وأن التفاهمات المستدامة تتطلب إرادة حقيقية من الجانبين.
إن نجاح هذه الزيارة يعتمد على قدرة الطرفين على تجاوز الخطاب السياسي التقليدي، والانتقال إلى مرحلة التنفيذ الفعلي للاتفاقيات. فالمواطن في الإقليم لا ينتظر بيانات سياسية جديدة، بل يريد حلولًا ملموسة تضمن له حقوقه الأساسية، مثل صرف الرواتب وتوفير الخدمات.

زيارة نيجيرفان بارزاني إلى بغداد تحمل في طياتها الكثير من التحديات والفرص. فهي تمثل اختبارًا جديدًا لقدرة النخب السياسية العراقية على إدارة التنوع داخل الدولة، وتؤكد أن التوافق بين أربيل وبغداد ليس خيارًا، بل ضرورة لضمان استقرار العراق في محيط إقليمي مضطرب.

وبينما ينتظر الجميع نتائج هذه الزيارة، يبقى السؤال الأهم: هل ستؤدي هذه اللقاءات إلى رسم أفق جديد للعلاقة بين المركز والإقليم، أم أنها ستبقى مجرد محطة أخرى في مسار طويل من الأزمات المتجددة؟ الإجابة ستتوقف على مدى استعداد الطرفين لتقديم التنازلات والتوصل إلى حلول واقعية تلبي طموحات الشعب العراقي بكل مكوناته.

*مستشار في رئاسة اقليم كوردستان

قد يعجبك ايضا