الأديب علي عبد العال والرقيم الأخير في مهد الحضارات .. الحرية في أي مكان أسمى من الذل والعبودية داخل الأوطان
حاوره د. توفيق رفيق التونچي
الأديب المناضل علي عبد العال يمثل عصارة روح الإنسان العراقي المكافح بكل معنى الكلمة عاش الوطن ومحنته والمنفى وتغرب هنا وهناك وحمل معه ذلك الوطن أينما حل ثم جمعها في باقة طيبة من الكلمات ليروي للأجيال القادمة تجربة إنسانية ليس فقط من الناحية النظرية، بل كتجربة شخصية عاشها بنفسه ليعكس كل مآسي الوطن منذ تأسيسها كدولة لحد يومنا هذا. العقود الثلاثة الأخيرة كتبت مرات عنه وعنً أنتاجه الأدبي وتجاربه جلب لي معه هدية كتابه الأخير ” رقم الغياب” وهي سيرته الذاتية يتطرق فيه إلى تفاصيل عن العراق تراثا، ثقافة، أساطير أولين وتاريخ مارا من محطات من حياته في العراق والمنفى وطبعا يعرج إلى اهم فترة نضالية قضاه في ربى وجبال كوردستان.
اليوم التقي به قارئي الكريم ليحدثنا عنً تجربته النضالية وعلى ارض الوطن حيث حركة الأنصار في كوردستان وتوثيق فترة تاريخيّة في حياة أبناء العراق في نضالهم من اجل عراق حر ديمقراطي بعيد عن سطوة البعث الفاشي الذي دمر البلاد في حروب مع شعبه وجيرانه وصولا إلى انهياره باحتلال قوات التحالف الدولي العراق عام ٢٠٠٣. بعد ان احتسينا القهوة المرة ونحن نتحدث عن هموم الوطن وإنسانه سالته عن بداية فكرة خوض النضال المسلح ضد النظام البعثي في العراق بعد فترة تدريبية عسكرية في لبنان، ك “مناضل عريق من اجل قضية الكورد ” حسب التسمية الكوردية.
تجربة حركة البيشمركة من فصائل المناضلين الكورد الثائرين ضد النظام الدكتاتوري البعثي اطلقت تسمية الأنصار على المناضلين العرب ممن التحقوا بجبال كردستان في صفوف المقاومة الكردية المسلحة نالت تسمية “الأنصار لاحقا”. ولم يكن ذلك بالتاريخ الحديث وانما حدث ذلك في ستينيات القرن الماضي بزعامة القائد الكردي التاريخي المرحوم مصطفى البارزاني المؤسس الاول لحركة النضال الكردي المسلح في سبيل نيل حقوقه المشروعة من انياب الحكومات العسكرية المتعاقبة في الدولة العراقية الحديثة. كان الرفيقان الشيوعيان ملازم خضر ابو عايد والملازم احمد الجبوري وهما من الضباط المحترفين خاضا معارك جبال هندرين وتغلبا على القوات الحكومية الباغية بجدارتهما العسكرية المحترفة، ولم يكن يجلس المرحوم القائد مصطفى البارزاني الا وملازم خضر على يمينه وملازم أحمد الجبوري على يساره. ومن هذا التاريخ السياسي الوطني ويثق الكورد يقينا بشعارات واهداف الحزب الشيوعي الوطنية المخلصة. ويستمر الوضع بهذا الحال حتى الأن بغض النظر عن بعض القوى الكردية التي تنصلت لدور الحزب الشيوعي والحقت به الكثير من الأضرار بلغت تصفيات مؤلمة بصفقة سياسية مع نظام البعث معروفة للتاريخ بقضية تصفية الشيوعيين الأنصار في منطقة بشت أشان الشهيرة. في ظروف الجبهة الوطنية التي طرحها حزب البعث الحاكم ولم تكن سوى مجرد فخ سياسي خبيث وحسب، بل هي خطة محكمة للقضاء عالى الحركة الوطنية برمتها. تم استدراج الحزب الشيوعي للمشاركة بالحكم ولم يكن سوى فخ سياسي خبيث ادى بالنتيجة الى انقسام خطير بصفوف الحزب الشيوعي ومن ثم تفتيت القوى السياسية الوطنية على خلافاتها السطحية على الساحة العراقية. وبعد الانقضاض على صفوف الحزب الشيوعي وتصفية غالبية عناصره الفاعلة خلت الساحة السياسية العراقية من المشاركين المفترضين فضلا عن الحلفاء للنظام وهكذا انفرد حزب البعث بالسلطة تحت زعامة المتخلف العشائري صدام حسين وحاشيته البدوية المتخلفة، وهكذا بدأ العراق يتجه نحو المزيد من التعسف والظلم والاضطهاد الواسع ضد جميع القوى السياسية التي لا تتفق مع توجهاته السياسية المنحرفة.
“اطلقت تسمية الأنصار على المناضلين العرب ممن التحقوا بجبال كردستان في صفوف المقاومة الكردية المسلحة نالت تسمية “الأنصار لاحقا”. ولم يكن ذلك بالتاريخ الحديث وانما حدث ذلك في ستينيات القرن الماضي بزعامة القائد الكردي التاريخي المرحوم مصطفى البارزاني المؤسس الاول لحركة النضال الكردي المسلح في سبيل نيل حقوقه المشروعة من انياب الحكومات العسكرية المتعاقبة في الدولة العراقية الحديثة”
بعد فترة وجيزة من هجمات حزب البعث الهمجية المنظمة ضد القوى الوطنية التي بدأت أواسط العالم 1978 وتم فيها تصفية الرفاق الشيوعيين وغيرهم من القوى حتى من المنتمين لحزب البعث انفسهم بدأ الظلام والقمع يحيط بأجواء العراق بنشر الرعب والخوف بين الشعب العراقي برمته. عند ذلك تجمهر الكثير من الرفاق في العديد من المنافي للتباحث بواقع العراق المرعب. انقسم الحزب الشيوعي الى نصفين أثناء تلك الاجتماعات، النصف الأول كان يدعو للتهادن مع حكام العراق الجدد على الحكم وعدم امتلاكهم الخبرات الكافية لأداره الدولة ومثله كل من الرفاق عامر عبد الله وباقر ابراهيم وزكي خيري وغيرهم، والنصف الثاني مثله الرفاق عزيز محمد وفخري كريم ومن لحق بهم من الركب. انتصر فريق الرفيق فخري كريم على الفريق الاول المعروف بالحكمة والتروي واتخذ قرار الكفاح المسلح ضد النظام بشكل غير مدروس جيدا. تم زج الرفاق الشباب من طلاب العلم وذوي الشهادات المرموقة في جبال كردستان وهي بيئة لم يعتادوا عليها سابقا.
كوردستان كبيئةً مختلفة لكم كيف تمكنتم التأقلم في بدايات النضال؟
في الواقع واجهتنا صعوبات جمة، وادركنا مقدار النقص او بالأحرى النواقص الكثيرة بما تورطنا فيه كمجموعة تستعد لمواجهة أعتى نظام همجي مسلح مستعد للبطش بكل عراقي يقف بوجهه. وادرك البعض منا أنه مجرد فخ جديد للايقاع بنا في أتون المجهول. لأكن صريحا معك ظل هذا الهاجس يلازمني حتى الآن بعد مرور كل هذه الأعوام التي قاربت الخمسين عاما. كان من الأجدر بالرفيق فخري كريم عمل دورات لتعليم مفردات اللغة الكردية البسيطة كالتحية والاحترام للمضيفيين الاكراد عند اللقاء بهم وإيضاح مهمتنا لمساعدتهم للخلاص من الظلم البعثي، لكن أي من هذا لم يحصل، فكنا كالطرشان بالزفة. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لم نكن نحن أنفسنا نعلم بالضبط ما هي اهدافنا الواقعية سوى محاربة جيش صدام بدون أسلحة ولا ومعدات ولا حتى ملابس تلائم ظروف جبال كوردستان الشامخة. وصلنا نهاية شهر أكتوبر عام 1979 وبدأت الثلوج بالهطول تدريجيا ونحن حتى بلا مأوى يحمينا من قوانين الطبيعة الصعبة. كنا نحاذي خط الحدود التركي مع العراق وأسسنا بالتالي قاعدة بهدينان الرئيسية بشق الأنفس. بليت ملابسنا وأصبحت اسمالا بالية وكنا لا نعثر على الطعام الا بشق الأنفس عن طرق صيد الأسماك من نهر الخابور حتى علم بنا بعض الأهالي من القرى البعيدة وفيهم عناصر طيبة من البارتي فجلبوا لنا البرغل وأوراق الشاي وبعض السكر وتطوع منهم بتشييد قاعة حجرية وبعض الحطب لكي نشعر بالدفء. كنا ننام على الحجر بدون أغطية، وتناول منا القمل ما طاب له من دماء تحت الجلود. كنا بقيادة الرفيق العزيز الشيوعي المخضرم أحمد الجبوري الذي تمتع بصبر ورؤية ما لم يتمتع به النبي أيوب. كان الرفيق احمد الجبوري يتقن عدة لغات عدا العربية طبعا وهي اللغات الكردية والانكليزية والالمانية والفرنسية والفارسية. عندها زارنا القائد الكورد البارز أدريس البارزاني وهو أبن البكر للمناضل الكبير مصطفى البارزاني وقدم لنا المساعدات وبعض الأسلحة البسيطة وبعض المؤون صفيحة دهن السمسم الراشي والسكر والشاي والطحين، تلك كانت أمور لا يمكن نسيانها مطلقا.
في الواقع يا دكتور وبعد عدة أشهر بتنا نرى ملامح واضحة في هذه البيئة الجديدة علينا. الملمح الأول هو اننا نعيش في بيئة مسالمة وطيبة وكريمة من الشعب الكردي وهي تتألف من أهالي القرى الطيبين المضيافين الذين قدموا الدعم والعزم على مقارعة النظام القمعي البعثي، وكنا بدورنا نقدم له الخدمات الصحية والطبية بعد التحاق الكثير من الأطباء والمعلمين والسياسيين الذين يتحدثون اللغة الكردية. أما الشق الثاني هم فرق الجحوش المجرمة التابعين للنظام الذي كان يسميهم بالفرسان. فتكوا بالشعب الكوردي المسالم ونحن أوقعنا فيهم الخسائر ببعض المعارك. لكنهم كانوا الأكثر عددا والأكثر تسليحا تسانده قوات الجيش بمعداته المتطورة وطائرات الهليكوبتر العسكرية. النتيجة ولتراكم الأخطاء الحزبية تمت تصفية حركة الكفاح المسلح وحركة الأنصار العربية في كردستان انتهت بقصف النظام لمقراتهم بالسلاح الكيمياوي.
الانطلاق من الشآم كقاعدة للعراقيين المعارضين تجربة بحد ذاتها لمعرفتنا بان الأمور تغيرت بعد انهيار النظام البعثي في العراق حيث لجأ اليها أعداء الأمس. هل تعتقدون بان تم توثيق تلك الفترة وكيف تم تخليد المناضلين الذين قدموا حياتهم من اجل الخلاص من ذلك النظام الفاشي؟
هذا سؤال مهم جدا ويحتوي على الكثير من العاطفة الإنسانية والمشاعر الوطنية، أحب القول ان هذا الواقع بما مضى فيه من مآسي مؤلمة وبحاضره المضطرب والمشوش سياسيا واجتماعيا يضعنا في موقع المسؤولية والترقب والحذر. من ناحية التوثيق لتجربة الأنصار في كردستان ساهم الكثير من الرفاق المحترمين بكتابة تجربتهم الخاصة والعامة سلبا وايجابا، وكنت أحد المهتمين بهذه التجربة القاسية كتبت روايتي “مقتل علي بن ظاهر ومتاهته” وهي رواية اشبه بوثيقة سياسية بمنظور أدبي تناولت تلك المرحلة، لاقت هذه الرواية الكثير من النقد من قبل بعض حراس الحزب الشيوعي وأيضا لاقت الترحيب ممن يعرفون الحقائق بدون غبار. هكذا دوما تلقى الأعمال الأدبية الترحيب والتخريب. لا أندم على ما كتبته أبدا لأنني كنت صادقا بكل حرف وكلمة وجملة ولم أقفز على الواقع بأي شكل من الأشكال.
“بعد عدة أشهر بتنا نرى ملامح واضحة في هذه البيئة الجديدة علينا. الملمح الأول هو اننا نعيش في بيئة مسالمة وطيبة وكريمة من الشعب الكردي وهي تتألف من أهالي القرى الطيبين المضيافين الذين قدموا الدعم والعزم على مقارعة النظام القمعي البعثي، وكنا بدورنا نقدم له الخدمات الصحية والطبية بعد التحاق الكثير من الأطباء والمعلمين والسياسيين الذين يتحدثون اللغة الكردية”
بالنسبة للواقع اليوم وما تمر به المنطقة بين سوريا والعراق ولبنان وايران فهي معادلة شائكة ومعقدة بالرغم من خطوطها العامة الواضحة للمتمرسين السياسيين. الدول تجري وراء مصالحها، ويبدو أن مصالح هذه الدول المذكورة لا تسعى لمصالح دولها وانما تسعى لمصالح حكامها المتسلطين فقط وطز بالشعوب وهيبة الدولة. لا يمكن لنظام دكتاتوري التصالح مع نظام دكتاتوري مجاور له الا بوسيلة واحدة هي القمع، حتى تجربة هتلر مع موسيليني وأمبراطور اليابان سقطت بالواقع التطبيقي. وكذلك فشل الاتحاد السوفيتي كنظام دكتاتوري بضمان ولاء حلفائه من الدكتاتورين الصغار الذين شيدهم على رقبة شعوبهم. وهكذا نرى سقوط نظام البعث المهين بقيادة الدكتاتور صدام في جحر الفأر وتبعه دكتاتور سوريا الذي هرب بجلده المكلل بالخزي والعار. مصير سوريا السياسي يثير الكثير من القلق، وشخصيا لا أثق بأي حركات او مجاميع تنطلق من مصادر دينية مهما كانت تسمياتها، والوانها وأعلامها وشعاراتها.
ختاما اقدمً تحية كبيرة للدكتور المثابر توفيق التونجي المحترم بالبحث عن حقائق التاريخ المعاصر للحركة الوطنية العراقية بجميع مفاصلها التاريخية والمعاصرة منها.
وأنا بدوري اشكر أديبنا لهذا اللقاء الجميل لتوثيق فترة تاريخيًا منً حياته وتجاربه الغنية.
السويد ٢٠٢٥
الأديب علي عبد العال ؛ مواليد العراق ـ الديوانية 1956 درس القانون والسياسة في جامعة بغداد 1975 ـ 1979 عمل بالصحافة العراقية والعربية والسويدية عضو اتحاد الكتاب السويديين منذ عام 1996 غادر العراق 1979 مقيم في السويد منذ العام 1990 .
صدر للمؤلف؛
”المشي في الحلم” مجموعة قصصية. دار الصداقة للنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان 1987 ”مقتل علي بن ظاهر ومتاهته” رواية. دار المنفى ـ السويد 1996 ”أنشودة الوطن.. أنشودة المنفى” مجموعة قصصية مشتركة. دار الكنوز الأدبية بيروت ـ لبنان 1997 ”العنكبوت” مجموعة قصصية. دار المنفى السويد 1998 ”أقمار عراقية سوداء في السويد” رواية. دار المدى للثقافة والفنون ـ بيروت ـ لبنان 2004 ”ميلاد حزين” رواية. دار حوران سورية ـ دمشق 2005 ”أزمان المنافي” ثلاث حكايات. دار حوران سورية ـ دمشق 2005 ”عالم صغير جداً” مجموعة قصصية. وزارة الثقافة السورية 2007 ”جمرٌ عراقي على ثلجٍ سويدي” رواية. دار التكوين. سورية 2008 ”العودة إلى الرحم ـ رُقم الغياب” رواية ”صبية اسمها سورية” رواية
البريد الالكتروني: aliabdulal@hotmail.com
*الرقيم ” الجبل الذي فيه الكهف”