عمار الشلاه
يظل العزاوى أمينًا لمضامين بيان جماعته وخاصةً تلك التي تنزع إلى التمرد والتغيير والثورة على كل ما يقيد الفنان ويؤطر مساره الفني ويتوق إلى الانفتاح على آفاق أوسع، كما جرى ويجرى في الأجناس الأدبية المختلفة، كالرواية والقصة والشعر وغيرها من متغيرات وتحولات يمليها عامل الزمن والتأثيرات النوعية الصادرة من الآخر، فضلًا عما يجود به المبدع من خلقٍ وابتكارٍ ينبعان من ذات مرهفة متمردة وخلاقة، فإن للفن التشكيلي المعاصر حظًا وافرًا من هذه التحولات.
وإذا ما تتبعنا مسار الحركة التشكيلية العراقية واتخذناها أنموذجًا، فسنقف على علامات ومحطات متعددة في هذا المسار الديناميكي منذ بواكير هذه الحركة في أواخر القرن التاسع عشر على يد الفنان الرائد عبد القادر رسام، مرورًا بمراحل متسلسلة متشكلة عبر الجماعات الفنية وعلى التوالى: جماعة أصدقاء الفن وجماعة الرواد وجماعة بغداد للفن الحديث وجماعة البعد الواحد وجماعة الرؤية الجديدة وجماعة الأربعة.
وهذه الجماعات انتظم أعضاؤها على وفق رؤيةٍ فنيةٍ وتوجُّهٍ فنى محدد ذي ملامح جامعة وإنْ اختلفت وتباينت أحيانًا الأساليب بين فنان وآخر ضمن المجموعة الواحدة.
ومن هذا ندرك أبعاد التركيبة البنيوية والرؤيوية التي تترسّم خطى الفنان الساعى إلى التغيير والتجديد، ومثال ذلك الهوية الفنية للفنان ضياء العزاوى وهو الرسام والنحات والمصمم والذى يُعد واحدًا من أبرز اعضاء جماعة الرؤية الجديدة التي تشكلت في عام 1969 والتي نقرأ في بيانها التأسيسي: ((ممارسة الفن رهن بممارسة الإنسان لجوهره الإنساني، وأفضل ما تعمله الثورة اتجاه الفنان الإنسان انْ توفر له إمكانية ممارسة ذلك الجوهر الرافض للوجود المتخلف والعلاقات الميتة.. فالثورة المتخطية والصانعة للنموذج الثوري هي أيضًا الفن المستقبلي المدهش والمحقق للرؤيا الجديدة)).
وعلى هذه الرؤية لم يستمر الفنان ضياء العزاوى طويلُا في مرحلته الحروفية تلك التي تميَّز بها في الموازنة بين سطوة الكتل اللونية المشكّلة لعناصر اللوحة المحيطة وبين هيئة الحرف التي تصرَّف بها كما تشاء له مخيلته بأشكال حرة في التوليف بما ينسجم مع بناء وإنشاء اللوحة بعيدًا عن خط الحرف حسب دقة وصرامة وانساق قواعد الخط العربي التي تأكل من جرف عناصر اللوحة الأخرى.
وعاد الفنان ضياء العزاوى ليمضي على منهج بيان جماعته ويعبِّر عن رؤيته الفنية المستفَزّة آنذاك إبان تداعيات نكسة 5 حزيران (يونيو) التي حدثت عام 1967، وهو المولود في عام 1939 والمار على مشهديه الحركة التشكيلية العراقية بمختلف مراحلها والمطّلع على معظم أعمال الجماعات الفنية المتعاقبة والمذكورة آنفًا ويقف إزاءها محلّلاً وناقدًا على وفق ذائقته الفنية ورؤيته البصرية ، وخلفيته الثقافية في إغناء تجربته من خلال ثراء مَعِين اطلاعه وهو الشغوف في قراءة التاريخ والآداب العربية من سرديات وشعر وشعر شعبي بالعامية العراقية، فيستلهم من التاريخ حدثًا مأساويًا خالدًا في وجدان العراقيين وغيرهم، ذلك عندما أنجز أعمالًا حول مأساة كربلاء وملحمة استشهاد الحسين(ع)، وهو في هذا يذكرنا بعمل الفنان كاظم حيدر (ملحمة الشهيد)، ولكن العزاوى عالج الموضوع على صيغة فنية وبإنشاءٍ بنيوي مغاير يتفق مع أسلوبه في الإنشاء التشكيلي.
وأعلنَ مرةً أن لديه مخطوطة عن الحسين (ع) لم يشأ نشرها كي لا يُرمى بتهمة الطائفية، على الرغم من إعلانه عن موقفه الرافض للنعرات الطائفية من أي لون كانت ودعمه للحياة المدنية المتنورة.
واقترن فن ضياء العزاوى مع شاعرية الشاعر العراقي الراحل مظفر النواب عندما ضمّنَ ديوانَ الأخير في الشعر الشعبى المعنون (للريل وحمد) مجموعةً من رسوماته على هامش الصور الشعرية لمظفر ثم أنجز بعدها في سنوات لاحقة اعمالَ الدفاتر الشعرية وغيرها من رسومات زينت الدواوين الشعرية لشعراء آخرين عراقيين وغيرهم حيث تتماهى صور كلا الفنَّين الإبداعيين مع بعضهما.
ويظل العزاوى أمينًا لمضامين بيان جماعته وخاصةً تلك التي تنزع إلى التمرد والتغيير والثورة على كل ما يقيد الفنان ويؤطر مساره الفني ويتوق إلى الانفتاح على آفاق أوسع، فيلجأ إلى مغادرة العراق عام 1976 تخلصًا من الهيمنة الدكتاتورية والحكم الشمولي للسلطة التي جثمت على صدور العراقيين وقيدت حرياتهم وازدادت في القمع مع مرور السنين، ويجد العزاوى في لندن ملاذًا ومتنفسًا حيث أنشأ محترفه الفني.
ومرة أخرى تجود مخيلته الفنية بطاقتها التعبيرية وهى تستجيب لأحداث مأساوية طالت شعبنا الفلسطينى كمأساة مخيم تل الزعتر وغيرها إبان الحرب الأهلية اللبنانية، فقام بعمل لوحات احتجاجية صارخة من وحى المأساة في محاكاةٍ مع أشعار الشاعر محمود درويش وشعراء آخرين، وخاصة تلك اللوحات التي رسمها صدىً لمجزرة مخيمى صبرا وشاتيلا عام 1982 ومنها الجدارية الكبيرة التي ما إن تقع عين المشاهد عليها حتى تعود ذاكرته البصرية إلى( الجورنيكا) رائعة بيكاسو التي رسمها عام 1937 عند قصف مدينة جورنيكا إبان الحرب الأهلية الإسبانية، إذ يلوح التوافق بين العملين من حيث الحجم والأسلوب والتقارب في الألوان التي تغلب عليها تدرجات الألوان المحايدة وهى تغطى مساحات عناصر اللوحتين المتمثلة بمخلفات دمار العنف وخاصة الأشلاء البشرية المتناثرة وهى تتوزع على نحوٍ قصدى يترجم مرارة الإحساس الذى يتملّك الفنان إزاء أعمال العنف.
ان التعامل اللوني الذى يعتمده الفنان العزاوى يؤشر على ذائقةٍ لونيةٍ مرهفةٍ وإحساسٍ بصرى رفيع يتناسب مع موضوع الحدث وأبعاده الإنسانية التي طالما شغلت الفنان ورافقته همًا ملازمًا في حلّه وترحاله بين الوطن والغربة، وبعد عرضِه لوحة صبرا وشاتيلا في الكويت لمدة خمس سنوات استقرت لاحقًا في قاعة متحف (تَيت مودرن) في لندن إلى جانب لوحات وأعمال مشاهير الفنانين العالميين.
وتنوعت أساليب الفنان ضياء العزاوى التي حملت سمات المعاصرة والحداثة إلى جانب القصدية، وتفنّنَ في التلاعب الخطى وهو يشكل العناصر التشخيصية في بعض الأعمال التي تشى بالرمزية والتعبيرية حينًا والتجريدية حينًا آخر، وذلك على صيغة البعدين ابتداء، ثم على صيغة الأبعاد الثلاثة باعتماد الأشكال الهندسية ذات الخطوط والزوايا المتنوعة من المربعات والمثلثات التي تتداخل مع أشكال أخرى محددة بخطوط مستديرة او مستقيمة.
أما اللون في أعمال البعدين فقد حمل مهمة غواية المشاهد بالاستغراق في الإبهار المتولد من المهارة والإتقان في التنفيذ على نسق لعبة الإيحاء بتوافر الفضاءات بين الكتل اللونية بما يشى بتأمين الأبعاد الثلاثة، هذا فضلاً عن براعة وحرفنة التلوين في أعمال الأبعاد الثلاثة.
وفي هذه وفي تلك يسود اللون الأسود الذى يحْذَره الكثير من الفنانين إذ يوظفه العزاوى بمساحات محسوبة في بعض اعماله ليكون عاملًا مشاركًا بمهمتى الاتزان والإيحاء القصدى كعلامة وإشارة سيمائية.
وتبقى الأحجام الكبيرة للوحات هي الخيار المفضل للعزاوى من بين الخيارات الأخرى للقياسات. وهو على الرغم من ممارسته لفن النحت إلى جانب فنون تشكيلية اخرى فإنه لا يَعد نفسه نحاتًا، وفي معرضه الأخير الذي أقيم في عمّان عرضَ مصغرات لنماذج نحتية تصلح ان تكون نُصبًا لافتةً بعد تنفيذها بأحجام كبيرة مناسبة، كما ضمّن معرضه أعمال الخزف ذات الطاقة اللونية المبهرة، وأعمالاً طينية بدون تزجيج لاستثمار الجوهر البنيوي واللوني للطين.
إن ضياء العزاوى علامة فارقة من علامات الفن التشكيلى العراقى تضاف إلى أيقونات هذا الفن مثل جواد سليم وفائق حسن ومحمد غنى حكمت وآخرين، وهو فنان تشكيلى شامل، تعامل باحترافية وإبداع مع خامات وأدوات متنوعة أخضعها إلى نزعة الإنسانية وقيمها النبيلة التي كرَّس فنه من أجلها ولم يحِد عنها وأصبح مبرَّزًا من بين الفنانين العرب واسمًا لافتًا في المشهد التشكيلي العالمي، واستحق لأجل ذلك جائزة النيل للمبدعين العرب لعام 2023 التي أعلن عنها المجلس الأعلى للثقافة في مصر بعد الاجتماع الذى عقده المجلس بدار الأوبرا المصرية بحضور الدكتورة نيفين الكيلاني وزيرة الثقافة.