نادر سعدون
تحويل نظام الحكم في سوريا إلى نموذج شبيه بالنظام الإماراتي ستكون أحدى الحلول التي قد تسهم في تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة بعد سنوات من الصراع الطويل و الدمار ، يقوم هذا النموذج على الفيدرالية بحيث تُدار كل منطقة أو إقليم كإمارة مستقلة نسبيًا، لديها حاكمها الخاص وصلاحيات واسعة في إدارة شؤونها المحلية، بينما تخضع لسلطة مركزية في العاصمة و التي تتولى القضايا السيادية مثل السياسة الخارجية، الدفاع، والخدمات الوطنية.
لقد نجحت الإمارات العربية المتحدة في تطوير نموذج فريد من الحكم الفيدرالي القائم على التنوع والتكامل بين إماراتها السبع رغم اختلافات الرؤى بينهم ، لكن يبقى السؤال: هل يمكن تطبيق هذا النموذج في سوريا، وما هي إيجابياته وأبرز التحديات التي قد تواجهه؟
يكون التنسيق بين المحافظات السورية أو المناطق أو الأقاليم السورية كالتنسيق بين الإمارات السبع (أبوظبي، دبي، الشارقة، عجمان، أم القيوين، رأس الخيمة، الفجيرة) فهي تتم بطريقة مدروسة توازن بين التنافس المحلي والتكامل الاقتصادي، مما يساهم في تعزيز التنمية المستدامة وتوزيع الأعمال والصناعات بشكل متناسق ، فمثلا يشرف مجلس الوزراء الإماراتي على التنسيق بين الإمارات في مجالات التخطيط الاقتصادي، التعليم، الصحة، والأمن و إصدار قوانين وسياسات موحدة لدعم العمل الجماعي، مثل سياسات الاستثمار والتنمية المستدامة، وتم تأسيس المجلس الأعلى للاتحاد الذي يتألف من حكام الإمارات السبع ويعمل كهيئة تنسيقية لضمان توازن المصالح بين الإمارات.
و بخصوص توزيع الأعمال والصناعات بين الإمارات فمثلا أبوظبي تعتبر مركز النفط والغاز والصناعات الثقيلة و تطوير الطاقة المتجددة و الاستثمار في الصناعات الدفاعية ، كما تعتبر دبي كمركز عالمي للتجارة والسياحة واللوجستيات و تضم مقرات للشركات العالمية بفضل المناطق الحرة و تركز على قطاعات التكنولوجيا والتمويل ، أما الشارقة فهي تقوم بالتركيز على التعليم والثقافة و الصناعات التحويلية والمتوسطة و الاهتمام بالسياحة البيئية ، و رأس الخيمة تركز على الصناعات الثقيلة مثل الأسمنت والسيراميك و تطوير السياحة الطبيعية والتعدين و أما الفجيرة فهي الميناء البحري لتصدير النفط والبضائع و الصناعات البحرية والنقل و عجمان وأم القيوين تختص بالصناعات الخفيفة والمتوسطة مثل تصنيع المواد الغذائية والمشاريع الصغيرة و تطوير السياحة والتركيز على التراث المحلي.
التكامل الاقتصادي في الامارات منظم جدا بحيث كل إمارة تستغل مواردها الطبيعية وموقعها الجغرافي لتطوير صناعات معينة ، و رغم المنافسة بين الإمارات في بعض القطاعات، فقد تم ضبطها عبر سياسات موحدة مثل قوانين الاستثمار وحماية ، وتقوم الحكومة الاتحادية للإمارات بتخصيص ميزانيات خاصة لدعم الإمارات الأقل نموًا و إنشاء مشاريع اتحادية في جميع الإمارات لضمان التوازن التنموي وهذا ما ستنجح بها سوريا ان تم الاستفادة من هذا النموذج لدولة عربية و إسلامية في المنطقة .
و رغم تلك التوزيعات و رغم خصوصية حكام كل امارة و استقلاليتهم في الكثير من القضايا و الأمور الأخرى يبقى الهدف الرئيسي لجميع الحكام تحقيق تنمية متوازنة وتوفير فرص اقتصادية متكاملة و تعزيز دور الإمارات ككيان موحد على الصعيدين الإقليمي والدولي.
من أبرز إيجابيات هذا النموذج أيضا أنه يُعطي المناطق المحلية مرونة أكبر في إدارة شؤونها وفقًا لظروفها الخاصة، مما يعزز من فعالية الإدارة والتنمية، فهناك الكثير من المناطق السورية تمتلك موارد طبيعية وبشرية متنوعة يمكن استغلالها بشكل أفضل إذا أُعطيت حرية في اتخاذ القرارات ، فمثلا يمكن لمحافظة الحسكة التركيز على تطوير قطاع الزراعة مثل القمح و القطن وإنتاج النفط و الغاز ، بينما تستفيد حلب من قوتها الصناعية الكبيرة و هي الملقبة بصين الشرق الاوسط، وتُعزز دمشق دورها كمركز تجاري وثقافي و سياسي و صناعي و تركيز منطقة الساحل السوري على تطوير السياحة و زراعة الحمضيات و العديد من الأمثلة الأخرى .
كما أن هذا النموذج يُسهم في تقليل الاحتقان الطائفي والعرقي من خلال تمكين كل منطقة من إدارة شؤونها الداخلية بما يناسب تركيبتها السكانية وثقافتها و علاوة على ذلك فإن الفيدرالية قد توفر آلية أكثر عدالة لتوزيع الموارد، حيث تكون كل إمارة أو أقليم مسؤول عن إدارة موارده وتطوير بنيته التحتية كما تفعل الإمارات بحيث تعتمد على تنوع مصادر الدخل، من النفط إلى السياحة والخدمات المالية و تركيز كل امارة على صناعات محددة ، وهو نموذج قد تحتذي به سوريا لتعزيز اقتصادها المدمر من خلال استثمار مواردها الطبيعية وموقعها الجغرافي كمركز تجاري إقليمي ، أما على الصعيد السياسي، فإن النموذج الإماراتي يركز على الاستقرار والحوكمة الرشيدة من خلال قيادة قوية وسياسات متوازنة، وهي عوامل تحتاج سوريا إلى تعزيزها إذا ما أرادت الانتقال إلى نموذج مشابه.
التفاصيل الإدارية للنظام الإماراتي تقدم نموذجًا واضحًا يمكن الاستفادة منه في سوريا، ففي الإمارات يتمتع كل حاكم بصلاحيات تنفيذية وتشريعية داخل إمارته مع الالتزام بالقرارات الاتحادية في القضايا الكبرى ، و يضمن هذا النظام توازنًا بين الاستقلالية المحلية والوحدة الوطنية ، في سوريا أيضا يمكن تصميم نظام مشابه بحيث تتولى الحكومة المركزية مثلا إدارة الدفاع و السياسة الخارجية، بينما تكون السلطات المحلية مسؤولة عن أمور أخرى ، و لتحقيق ذلك يتطلب الأمر انهاء الخلافات بين جميع الجماعات و الفئات المتواجدة حاليا في سوريا و التركيز على وضع دستور يضمن حقوق الجميع و تأسيس مؤسسات قوية قادرة على التنسيق بين المركز والأطراف الأخرى ، وضمان احترام القانون وسيادة الدولة على جميع المناطق.
وهناك أمثلة كثيرة عن الأنظمة الفيدرالية الناجحة، يمكن النظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي تُعد أكبر نموذج فيدرالي في العالم، حيث تتمتع كل ولاية بصلاحيات واسعة مع ارتباطها بحكومة اتحادية قوية ، و ألمانيا أيضًا تقدم نموذجًا مشابهًا من خلال 16 ولاية تتمتع بسلطات واسعة في التعليم، الصحة، والشؤون الداخلية ، و في الشرق الأوسط، يُمكن الإشارة إلى إقليم كردستان العراق و التطور الكبير الذي وصل اليه بإمكانيات عادية و بتحديات سياسية و اقتصادية كبيرة، و الذي يُدير شؤونه بشكل مستقل عن بغداد مع الالتزام بسيادة الدولة العراقية في الكثير من القضايا .
لكن رغم الإيجابيات، فإن تطبيق هذا النموذج في سوريا يواجه تحديات كبيرة حاليا و من أبرزها غياب الاستقرار السياسي والأمني، وضعف البنية التحتية في العديد من المناطق، والتفاوت الكبير في الموارد بين الأقاليم أو المناطق و المحافظات، كما أن غياب الثقة بين مكونات المجتمع السوري والحكومة الجديدة قد يُعيق تنفيذ هذا النموذج بشكل سلس، و أيضا سيواجه هذا تطبيق هذا النموذج الكثير من الرفض بسبب عدم فهمه و بسبب الأفكار التي زرعها حزب البعث في عقول الشعب و التي كانت تخون كل من يتحدث عن هذا النموذج و تعظيم الشعارات الفارغة مثل الوحدة و الحرية و الاشتراكية ( كلام حق يراد بها باطل ) و وحدة الأراضي السورية ، لذلك يتطلب الأمر صياغة إطار قانوني واضح يحدد حدود الصلاحيات والمسؤوليات، وضمان وجود آليات رقابية فعالة لمنع الانحرافات و ذلك بإشراف دولي لضمان حقوق كل إقليم أو إمارة.
يُعد النموذج الإماراتي مصدر إلهام يمكن لسوريا الاستفادة منه لإعادة بناء نظامها السياسي والاقتصادي و لكن نجاح هذا التحول يعتمد على توفر الإرادة السياسية و المؤسسات القوية والتوافق بين مكونات المجتمع السوري، و إذا تم تطبيق هذا النموذج بشكل صحيح، فإنه قد يكون خطوة مهمة نحو تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة في سوريا.