تاريخ العنف البشري ودوافعه الكامنة

 

سارة طالب السهيل

 

الجزء الثاني

نفسية العنف

يقدم كولن ولسون تفسيرا للعنف البشري ينطلق من كوامن نفسية، في كتابه الشهير (التاريخ الإجرامي للجنس البشري نفسية العنف)، يحاول فيه، فهم قصة الجنس البشري وطبيعته من خلال التناقض بين الجريمة والإبداع، واستخدام ذلك للتنبؤ بتطور الجنس البشري في المستقبل.

يشير الكتاب إلى أن التاريخ البشري كان مليئا بالجرائم، ولكنه أيضا مليء بالإبداع، ورغم وجود احتمالية انقراض الجنس البشري بسبب حادث نووي، إلا أن الفهم الجيد للتاريخ يجعل هذا الاحتمال ضعيفا. ويطرح الكاتب سؤالًا حول مدى تفوق الإبداع والذكاء على الجريمة في فهم طبيعة الإنسانية.

 

فالتاريخ البشري المسجل منذ عام  2500 ق.م يحتوي على قدر متواصل من العنف والقتل وإراقة الدماء، قد نجدها في بشاعة النازي الألماني، وفي الرعب الذي صاحب مأساة هيروشيما وناجازاكي، ومما كان يحدث في معسكرات اعتقال ياسين، وكلها مؤشر على أن البشر أميل إلى تدمير ذواتهم منذ بدايتهم على الأرض، وإن نهاية الجنس البشري حتمية ووشيكة.

 

وذكاء البشر نتج عنه بعض الجنوح وعدم التوازن، ونتجت عنه مخاوف ضيقة دفعته إلى حسابات مستمرة وقسوة متحجرة بلا رحمة تلك القسوة هي التي تدفع إلى انتهاج الطرق المختصرة لتحقيق الرغبات أي ارتكاب الجرائم.

 

فدافع القتل لدى هتلر كان نتاج نوع مشوه من الافكارالمثالية لخلق عالم أفضل، وهو الدافع نفسه لتدمير هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية. فالإجرام ليس شذوذاً يتسم بالطيش والتهور، بقدر ما هو نتيجة حتمية لتطور ونمو الذكاء البشري، أو الوجه الآخر كرد فعل عنيف لنمو قدراتنا على الخلق والإبداع.

 

وعلى ذلك، نجد أن أسوأ الجرائم لا يرتكبها الحمقى والأغبياء، بل يرتكبها المتحضرون الأذكياء باتخاذهم قرارات يوفرون لها المبررات والدوافع الكافية.

 

يذهب المؤلف إلى أن الدافع الإجرامي ليس نتاجا لفعل الشر، بقدر ما هو مركب طفولي وميل طفولي بدافع الاستسهال والاختصار، فكل جريمة تنطوي على ذات طبيعة تتسم بالتدمير والانتزاع واغتصاب شيء والاستيلاء عليه بلا استحقاق، فالقوة والعنف للإغارة هي نزعة للحصول على شيء مقابل لا شيء، فاللص يسرق ما يريد بدلا من العمل للحصول على ما يريد.

 

يخلص كولن ولسون في كتابه إلى أن الجريمة (ابنة الحضارة والتقدم وضريبتها) وكلما ازددنا تقدما؛ ارتفعت نسبة الإجرام مستدلا بقياس نسبة انتشار الجريمة ونوعيتها، مقارنة مع تطور الجنس البشري عبر التاريخ، ويعرض لنظرية هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية (قاعدة الهرم الحاجات الفسيولوجية من آكلي شرب، ومن ثم حاجته إلى السكن والانتماء وحاجتهللجنس وحاجته إلى التقدير، وفي قمة الهرم حاجة الإنسان لتحقيق الذات)

 

ويرى أن الجرائم عبر التاريخ تتوافق مع ترتيب حاجات الإنسان وفق هرم ماسلو، ففي البدء كان القتل لتأمين المأكل والمشرب في العصور البدائية لينتهي في القرن العشرين إلى غاية تحقيق الذات، فالقتل مقصود بذاته، وليس هناك من دافع وراء سبب قتل إنسان لآخر سوى رغبة القاتل في تحقيق ذاته، وليثبت لنفسه أنه قادر على القتل،  وليحظى باهتمام ولفت أنظار المجتمع إليه، هنا يشعر بالرضى النفسي، ويسهب في شرح تفاصيل جريمته عندما يقبض عليه، ليزيد جرعة إبهار الآخرين بعبقريته الإجرامية تماما كما فعل بن زارم أحد أشد السفاحين قسوة في القرن العشرين (والذي قتل ٢٠ شخصا من بينهم أطفال بعد أن اعتدى عليهم) وكتب تفاصيل جرائمه في كتاب سيرته الذاتية، ولم يكن يشعر بالأسف، ولا بأي رغبة في تغييره نهجهالاجرامي، بل كان يتوعد هيئة المحلفين بأنه سيقتلهم إذا سنحت له الفرصة!

 

كما تفسر إحدى النظريات دوافع الإجرام، إلى حالة الانقطاع عن الواقع، التي يعيشها القاتل، حيث يغوص في عالمه الذاتي، ويفقد الشعور بالمجتمع، ويشعر أن أفكاره أمر مبرر ومشروع وهي المرجعية الوحيدة التي يستمد منها منهجه في الحياة، ووحدها من تملك مشروعية التطبيق، كما أورد (ولسون) في كتابه نظرية الرجل الصائب، وهو الشخص الدوغمائي، الذي يفترض أنه على حق وصواب دائم، ولا يطوله الخطأ، وأن يقبل النقد والتوجيه، ولتطبيق أفكاره لا بأس من ارتكاب جريمة أو قتل و تذويباجساد الضحايا بحامض كيمائي مركب، وقد يكون الشخص الصائب من ذوي النزعة السيادية العالية، في مارس سلطة على من هو أضعف منه، تماما كما يحدث في التنويم المغناطيسي، في ورطهم معه بجرائمه.

يوضح لنا الكتاب، إن الواقع الإجرامي هو عقدة طفولية تتغير اختصار المسافات والوقت وادخار الطاقة الذاتية، وكل جريمة تكون خلفيتها التدمير والاغتصاب وانتزاعاً والاستيلاء على شيء بشكل غير عادل؛ باستعمال القوة والقهر والخدعة والمكيدة والاختلاء والغدر والإغارة والعنف، إنها نزوع إلى الحصول على شيء أو تحقيق تغيير في الواقع المادي ذي الاتصال بالأشخاص وبدون مقابل.

 

ومثال ذلك قتل أبرياء للتنقيب على الكنوز باستعمال دمائهم (خرافة شائعة في شمال إفريقيا)، وبحسب فرويد “يمكن للطفل أن يدمر العالم إذا ما توفرت لديه القوة اللازمة، فالطفل ذاتي تماما” يجهل كل وجهة خارج استراتيجياته الوجدانية. من هنا فالمجرم شخص يافع فضل في سلوك حياته سلوك الطفل / الأطفال، والمجرم تعس طوال حياته؛ لأنه ذاتي وليس بموضوعي، والطاغية هو من يغرق في ذاتيته دون اعتبار للغير، وهو الأظلم الأشهر الأفسد.

 

الجريمة خالدة بتجددها مع تجدد الأجيــــــال، والبشر ليسوا غير أطفال، قلة منهم تنجز وهي الفئة الناضجة؛ ليس لتخليد الذات، كما تفعل القدرة على الخلق والإبداع، فجاك السفاح وآل كابوني لم يخلفا شيئا يخلدهم، بل ماتت أعمالهم بموتهم عكس موليير وشكسبير وزرياب وتوما الأكويني وأرسطو، فالمجرم يلوم الطبيعة في صفته تلك لعدم قدرتـــه على الضبط الذاتــــي. هكذا فالحضارة أساسها الخلق والإبداع وهي شبيهة بكرة ثلج تدحرجت من عل، وتراءى حجمها للعيان، وقد ازداد ضخامة فيما الجريمة تبقى جامدة في حجمها.

 

ووفقا لمرجعية العداونية الحيوانية، فان إحساس الإنسان الدفين بالانتماء إلى مكان معين، أو الاعتقاد بامتلاكه، حسبما يفسر علم الاجتماع الحيوي، كان أصل الحروب البشرية عبر التاريخ. والشيء نفسه يقال عن السلوك الدموي للطغاة القتلة بأقرانهم بما هو في عالم الحيوان. كذلك يصدق الشيء نفسه عند فصائل الذكور المسيطرة، حين تقتل صغار أعدائها؛ وهو السبب نفسه وراء تخلي الدجاجة عن صغارهالتنقر صغار ذوات الريش من غير جنس الدجاج حتى الموت.

 

ومن عالم الحيوان نتعلم بأن الجريمة جزء من ميراثنا الحيواني لنقر بأن تاريخ البشر تمكن قراءته من زاوية علم الاجتماع الحيوي.

 

فهل يقود الإنسان نفسه إلى دماره القادم من داخله؟

 

بموجب ذلك، فان احتمال دمار الإنسان من داخله أقوى من احتمال انتشار الفهم بأن للبشر القدرة على التطور بالذكاء.

 

هذا الكتاب بالفعل استشرف مستقبل السلوك البشري الإجرامي، فما نشاهده من تطور الجريمة بات أمراً يفوق تصوراتنا العقلية وجوامح خيالنا، وبالفعل استخدم الإنسان ذكاءه في تدمير البشرية وليس حمايتها، ولعل جائحة كورونا التي عشنا في ظلالهااثبتت كيف وظف الإنسان ذكاءه في القضاء على الإنسان.

 

 

قد يعجبك ايضا