د. خالد حنفي علي
باحث مصري، مؤسسة الأهرام
إشكاليات التبرير والعواقب وضبط النفس
تثير ظاهرة الغضب السياسي داخل الدول والمجتمعات تخليقها عمداً لأغراض سياسية. يلي ذلك، هل الإجراءات العقابية تتناسب قوتها مع طبيعة المثير الغاضب أم تجاوزته وتحولت إلى قوة تدمير للآخر؟، والأهم هل تم تقدير عواقب تحويل الشعور بالغضب إلى سلوكيات، عبر تحديد كلفته وعوائده فيما يتعلق بحل المشكلة المسببة للغضب أم مفاقمتها؟.
على سبيل المثال، أثار هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 جدالاً واسعاً. فالهجوم يعبر بالأساس عن “غضب مبرر” له دوافع ومقدمات حقيقية تتعلق بمقاومة قوة احتلال تنتهك حقوق الفلسطينيين وتمنع أي أمل في دولة فلسطينية مستقلة، وتسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر المضي في مسار تطبيع إقليمي دون تقديم أي تنازلات في عملية السلام. مع ذلك، يجادل آخرون بأنه لم يتم تقدير عواقب الهجوم، في ضوء اختلالات توازنات القوى مع إسرائيل أو طبيعة المواقف الدولية التي بدت إما داعمة أو متواطئة أو عاجزة سواء عن كبح تحول الغضب الإسرائيلي إلى إبادة للفلسطينيين في غزة أو تحويل إسرائيل غضبها لاحقاً ليس فقط لاستعادة قوة الردع، وإنما لتغيير توازنات القوى لصالحها عبر توسيع حربها في الإقليم.
وبينما كان هذا الجدال خافتاً نسبياً في بداية حرب غزة، لكنه تصاعد مع طول أمدها لأكثر من عام وتزايد وطأة نتائجها الإنسانية، حيث قتل أكثر من واحد وأربعين ألف فلسطيني، وشرد أكثر من مليوني فلسطيني، ودمرت البنية التحتية للقطاع بالكامل. يُظهر هنا استطلاع للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أجري بين 3 و7 سبتمبر 2024 أنه على الرغم من أغلبية لا تزال ترى أن هجوم حماس كان قراراً صائباً، لكن نسب التأييد ذاتها تراجعت مقارنة بالأشهر الأولى للحرب، حيث اعتبر 54٪ من سكان الضفة وغزة أن الهجوم كان قرار صائباً مقارنة بـ67٪ في يونيو و71٪ في مارس من العام 2024[35]. مع ذلك، فإن أغلبية الفلسطينيين في هذا الاستطلاع تعتقد أن هجوم 7 أكتوبر 2023 وضع القضية الفلسطينية في بؤرة الاهتمام الدولي. بخلاف رؤى أخرى ترى أن إسرائيل تحولت إلى منبوذة أخلاقياً على المستوى العالمي، كما أنها لن تستطع القضاء على المقاومة الفلسطينية ما لم يتم حل مشكلة الغضب المتعلقة بإنهاء الاحتلال وبناء دولة فلسطينية مستقلة.
من جانب آخر، قد يثير الغضب السياسي إشكالية في علاقته بتغذية العنف والإرهاب، لكون الغاضبين قد يكونون منغلقين معلوماتياً وأقل تقبلاً لحجج المنافسين، فضلاً عن انتشار الصور المبسطة والاختزالية في أذهانهم عن العدو المتصور الذي سبب الغضب برغم أن الأخير قد ينتج عن عوامل أكثر تركيباً، ناهيك عن أن جل اهتماماتهم قد تتركز على هزيمة هذا العدو لإرضاء البعد النفسي على حساب العواقب المترتبة على ذلك. مثلاً، تربط العديد من التحليلات الغربية بين الخطابات الغاضبة لترامب التي تحفل بوصم الخصوم وإهانتهم وتهيئة البيئة الأمريكية للعنف، حيث برزت جماعات يمينية متطرفة مثل الأولاد الفخورون Proud boys التي تدعم توجهات ترامب، وقد أدين أعضاء من تلك الجماعة في اقتحام مبنى الكونجرس الأمريكي في يناير 2021 لمنع المصادقة على فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية وخسارة ترامب. بل إن محاولة اغتيال ترامب نفسه في يوليو 2024 بدت تعبيراً عن غضب مضاد لخطاباته المتطرفة في حملته الانتخابية للرئاسة الأمريكية التي تشهد استقطاباً داخلياً حاداً بين الجمهوريين والديمقراطيين [36].
تبرز أيضاً إشكالية أخرى في التعامل مع الغضب، لاسيما المتعلقة بضبط النفس للحد من تحول الشعور بالغضب إلى سلوكيات عنيفة. فعندما تواجه دولة ما تهديداً حاداً لأمنها القومي، فإن ضبط النفس قد يصورها أمام الخصوم على أنها عاجزة عن حماية مصالحها، لكن بالمقابل إن تخلت عن ذلك فقد يقود إلى نشوب حرب. من ثم، تصبح المعادلة الصعبة: كيف تُبدي الدول ضبط النفس إزاء تهديدات الخصوم التي تثير غضبها في الأزمات، مع الحفاظ على ماء الوجه أو توجيه رسائل ضغط دون بلوغ الحرب [37]. تظهر تلك الإشكالية بوضوح في نمط الضربات المحسوبة المتبادلة بين إسرائيل وإيران في مرحلة ما بعد حرب غزة، حيث يسعى كل طرف إلى إظهار قدرته على ردع الآخر دون بلوغ حرب إقليمية مباشرة، لكن ذلك قد لا يمنع من أن تقود التداعيات غير المقصودة أو سوء الإدراك المتبادل أو نمط القادة السياسيين المتطرفين على الجانبين الذين يعلون البعد النفسي والشعبوي على العقلاني من الوصول إلى حرب محتملة.
يظل في الأخير، أن ظاهرة الغضب سواء على مستوى الشعور أو السلوكيات السلمية والعنيفة تلعب دوراً أساسياً في تشكيل الظواهر السياسية داخل الدول أو السياسة العالمية. وبرغم الصعوبات والتحديات أمام تحليل تلك الظاهرة وأثرها، فضلاً عن الجدالات حول آثارها وعواقبها وطرق التعامل معها، لكن محاولة الاقتراب من تفكيك مضامينها وارتباطاتها مع المتغيرات السياسية الأخرى يمثل أحد مداخل التفسير المهمة في ظل الأزمات والاضطرابات المتلاحقة التي يعيشها العالم والإقليم.
[1] Pankaj Mishra, Age of Anger: A History of the Present, New York: Farrar, Straus and Giroux, 2017, Paul Hollander, Book Review https://doi.org/10.1007/s12115-018-0288-0
[2] Global Peace Index 2021, https://www.visionofhumanity.org/wp-content/uploads/2021/06/GPI-2021-web-1.pdf
[3] دينا إبراهيم حسن، أسس التنظير للعاطفة في السياسة والعلاقات الدولية، ملحق اتجاهات نظرية، مجلة السياسة الدولية، العدد 22 خمسة، يوليو 2021، ص 6.
[4] Gallup ,What Is the World’s Emotional Temperature? https://news.gallup.com/interactives/248240/global-emotions.aspx
يقيس مؤشر جالوب للعواطف مشاعر وعواطف المجتمعات من خلال مقابلات مع الأفراد في دول العالم عبر مؤشرين أحدهما، يتعلق بالتجارب اليومية الإيجابية (الشعور بالراحة، الاحترام، الابتسام، فعل أشياء مفيدة، المتعة) أو الآخر بالتجارب السلبية (الألم الجسدي، القلق، الحزن، الضغط، الغضب). وتتراوح درجات المؤشر من صفر إلى مائة، حيث تشير الدرجات الأعلى إلى انتشار المشاعر الإيجابية، وهي ترتبط بتصورات الناس عن مستوى المعيشة والحرية الشخصية ووجود شبكات اجتماعية
[5] Mary Holmes, Introduction The Importance of Being Angry: Anger in Political Life ,journal European Journal of Social Theory ,2004 https://doi.org/10.1177/1368431004041747
[6] يسبق لفظة الغضب وصفها بمفردات متبادلة كالشعور أو العاطفة أو المزاج، إلا أن علماء النفس يفرقون بينها، فالشعور بالغضب أكثر عمومية، ويرتبط بما تدركه أدمغتنا، أما عاطفة الغضب فهي رد فعل لحظي محدد تجاه عائق، بينما المزاج الغاضب حالة شعورية ظرفية قد تطول أو تقصر.
Michael Potegal, Gerhard Stemmler, Charles Spielberger, International Handbook of Anger: Constituent and Concomitant Biological, Psychological, and Social Processes, 2010 https://link.springer.com/book/10.1007/978-0-387-89676-2
[7] Tereza Capelos, Mikko Salmela, Gabija Krisciunaite, Grievance Politics: An Empirical Analysis of Anger Through the Emotional Mechanism of Ressentiment, Politics and Governance 10(4): December 2022, https://shorturl.at/4K0s9
Shahsavarani, Amir Mohammad and Sima Noohi ,Explaining the Bases and Fundamentals of Anger: A literature Review, International Journal of Medical Reviews 1 ,2015, https://www.ijmedrev.com/article_68914.html
[8] Alexandra Michel ,Collective Emotions Exploring the alignment of joy, sadness, anger, and more November 25, 2019 https://www.psychologicalscience.org/observer/collective-emotions
[9] جوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، تقديم وترجمة، هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، 1991
[10] Dived Ost, Politics as the Mobilization of Anger: Emotions in Movements and in Power. European Journal of Social Theory, 7(2),2004 https://doi.org/10.1177/1368431004041753
[11] Peter Lyman, The Domestication of Anger: The Use and Abuse of Anger in Politics. European Journal of Social Theory, 7(2), 2004 https://doi.org/10.1177/1368431004041748
[12] Michael D. Shear,and others ,How Trump Reshaped the Presidency in Over 11,000 Tweets The Twitter presidency The New York Times , 3Nov 2019. https://shorturl.at/tqzrb
[13] Carey E. Stapleton, Ryan Dawkins, Catching My Anger: How Political Elites Create Angrier Citizens. Political Research Quarterly, 75(3), 2022. https://doi.org/10.1177/10659129211026972
[14] Ryan C Martin,Lauren E. Vieaux. “9. The Digital Rage: How Anger is Expressed Online.2015. https://www.degruyter.com/document/doi/10.1515/9783110473858-011/html
[15] Alexandra Michel, Collective Emotions Exploring the alignment of joy, sadness, anger, and more November 25, 2019.the same link.
[16] تم استنتاج دورة مراحل الغضب السياسي من بعض الدراسات مثل:
Divid Ost, Politics as the Mobilization of Anger: Emotions in Movements and in Power,European Journal of Social Theory, 7(2), 2004. https://doi.org/10.1177/1368431004041753
Simon Thompson ,Anger and the Struggle for Justice. In: Clarke, S., Hoggett, P., Thompson,S. (eds) Emotion, Politics and Society, Palgrave Macmillan, London. 2006 https://doi.org/10.1057/9780230627895_8
Roger Petersen & Sarah Zukerman, Anger, Violence, and Political Science. In: Potegal, M., Stemmler, G., Spielberger, C. (eds) International Handbook of Anger. Springer, New York, 2010 . https://doi.org/10.1007/978-0-387-89676-2_32
[17] كيف أطاحت الاحتجاجات برئيسة وزراء بنغلاديش؟، صحيفة الشرق الأوسط، 6 أغسطس 2024، والرئيس الكيني يسحب قانون “زيادة الضريبة” عقب احتجاجات دامية، ، موقع بي بي سي عربي 26 يونيو 2024.
[18] Gallup Global Emotions 2024. https://www.gallup.com/analytics/349280/gallup-global-emotions-report.aspx?thank-you-report-form=1
[19] أزمة الغواصات: فرنسا تستدعي سفيريها في واشنطن وكانبيرا، 17 سبتمبر 2021 https://shorturl.at/UffdS
[20] Debra Javeline ,The Role of Blame in Collective Action: Evidence from Russia. American Political Science Review ,97(1), 2003 doi:10.1017/S0003055403000558
[21] Pew Research, Israeli Views of the Israel-Hamas War May 30, 2024
https://www.pewresearch.org/global/2024/05/30/israeli-views-of-the-israel-hamas-war/
[22] غضب وانتقادات غربية لتصريحات رئيس الوزراء المجري حول “الاختلاط العرقي”، فرانس 24 29/07/2022 https://rb.gy/ivxelp
[23] Isabel Ortiz, Sara Burke, Mohamed Berrada, Hernán Saenz Cortés World Protests A Study of Key Protest Issues in the 21st Century 2022 https://link.springer.com/book/10.1007/978-3-030-88513-7
[24] SimonThompson, Anger and the Struggle for Justice. In: Clarke, S., Hoggett, P., Thompson, S. (eds) Emotion, Politics and Society. Palgrave Macmillan, London. 2006 https://doi.org/10.1057/9780230627895_8
[25] KEITH E. SCHNAKENBERG ,CARLY N. WAYNE, Anger and Political Conflict Dynamics. American Political Science Review.;118(3) 2024 doi:10.1017/S0003055424000078
[26] Roger Petersen & Sarah Zukerman, Anger, Violence, and Political Science. In: Potegal, M., Stemmler, G., Spielberger, C. (eds) International Handbook of Anger. Springer, New York, 2010, https://doi.org/10.1007/978-0-387-89676-2_32
[27] Anam Tariq, Umar Bacha, Introduction and Definition of Anger. In: Hashim, H.T., Alexiou, A. (eds) The Psychology of Anger. Springer, Cham. 2022, https://doi.org/10.1007/978-3-031-16605-1_1
[28] حسام الدين فياض، فلسفة الاعتراف عند أكسل هونيث (الصراع من أجل الاعتراف)، مؤسسة مؤمنون بلاد حدود، 3 يونيو 2023 https://shorturl.at/IARn
[29] Isabel Ortiz, Sara Burke , Mohamed Berrada , Hernán Saenz Cortés ,Op.Cit, the same link
[30] Gallup, What Is the World’s Emotional Temperature?,op.cit, The same link.
[31] Scott Schieman, The sociological study of anger: Basic social patterns and contexts. In M. Potegal, G. Stemmler, & C. Spielberger (Eds.), International handbook of anger: Constituent and concomitant biological, psychological, and social processes 2010. https://doi.org/10.1007/978-0-387-89676-2_19
[32] مؤشر البارومتر العربي: د. مايكل روبنز، د. أماني جمال، د. مارك تيسل، أمريكا تخسر العالم العربي والصين تحصد المكاسب، فورين أفيرز، 11 يونيو 2024 https://shorturl.at/Vdejk
[33] Joseph Galbo, Review of Arjun Appadurai: An Essay on the Geography of Anger Canadian Journal of Sociology, November 2006
[34] Luo, Qinyi, “The Politics of Anger.” Thesis, Georgia State University, 2023. doi: https://doi.org/10.57709/35349710
[35) المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، استطلاع رقم 93، 17 سبتمبر 2024
https://pcpsr.org/ar/node/992
[36] Rachel Kleinfeld, The Rising Tide of Political Violence An Attempted Assassination of Trump Is Part of a Global Trend July 19, 2024 https://www.foreignaffairs.com/united-states/rising-tide-political-violence
[37] Erik Lin-Greenberg, Wars Are Not Accidents Managing Risk in the Face of Escalation November/December 2024 https://www.foreignaffairs.com/world/wars-are-not-accidents-managing-risk-erik-lin-greenberg