مشاعر الغضب والسياسة العالمية .. جدال التأثير والعواقب

 

 

د. خالد حنفي علي

باحث مصري، مؤسسة الأهرام

 

الجزء الثاني –

دورة انتقال الغضب من المشاعر إلى السلوكيات

تمر ظاهرة الغضب السياسي بمجموعة مراحل قد تنقلها من حالتها الشعورية إلى السلوكية، ومن ثم تظهر تأثيراتها في ديناميات تشكيل الظواهر السياسية، وهو ما يمكن توضيحه كالآتي [16].

 

أولاً: الحدث المثير للغضب

 

أي الواقعة التي تستثير مشاعر الغضب لجماعة أو قادة أو نخبة أو حكومة، وتحفزهم على إدراك ومعرفة طبيعة أوضاعهم. وكلما كان ذلك المثير له أثر حاد من حيث مستوى التهديد، زادت فرص نشوب الغضب الجماعي أو استغلاله من القادة السياسيين أو حتى انتشاره الكترونياً. قد يرتبط مثير الغضب بقرارات وسياسات حكومية تعتبرها المجتمعات غير عادلة ومن ثم تستفز مشاعرها للخروج عليها مثل: قرار حكومة بنجلاديش في يوليو 2024 بإعادة العمل بحصص التوظيف في القطاع العام، حيث أجج مشاعر الطلاب وحفزهم على الخروج للشارع في احتجاجات عنيفة انتهت بسقوط نظام الشيخة حسينة. أيضاً، أحدث مشروع قانون في كينيا في يونيو 2024 بزيادة الضرائب تظاهرات عنيفة في هذا البلد، حتى سحب الرئيس ويليام روتو ذلك المشروع وأعلن أنه لن يوقعه[17].

 

في الحالتين، أثار الحدث مشاعر الغضب الجماعي رداً على سياقات غير عادلة، وتم توظيفه على وسائل التواصل الاجتماعي للتعبئة السياسية للاحتجاجات التي ضمت شرائح واسعة من الشباب الغاضبين من سياسات الحكومتين. لكن مثير الغضب ذاته لم يكتسب زخم الاحتجاج الجماعي، إلا في ظل تراكم سياقات الاستياء في البلدين بسبب انتشار الفساد والبطالة وأزمات الديون وتراجع الأوضاع المعيشية والتراجع عن الوعود السياسية.

 

في سياق آخر، قد يصبح المثير للغضب مهدداً حاداً لأمن الدول. ففي أعقاب هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، أشار استطلاع لمركز جالوب العالمي أجرى بعد أسبوعين من الهجوم إلى أن أغلبية الاسرائيليين عانوا القلق (67%)، والتوتر (62%)، والحزن (51%)، وأن واحداً من كل ثلاثة قالوا أنهم عانوا من الكثير من الغضب (36%) [18]. تفسر تلك البيئة العاطفية السلبية نظرة إسرائيل لهجوم حماس كـ”مهدد وجودي” أحدث انكشافاً لأمن المجتمع ولقوة ردعها في المنطقة. تعززت تلك النظرة أكثر في ظل حكومة يمينية متطرفة بزعامة بنيامين نتنياهو، وبالتالي بدا رد الفعل الإسرائيلي غاضباً إلى حد التوحش، كما برز في ممارسة جرائم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة.

 

مع ذلك، قد يكون مثير الغضب أقل حدة على مستوى التهديد، أي يدخل ضمن المنافسات الاعتيادية بين الدول، ومن ثم يصبح رد الفعل الغاضب منضبطاً، أي يتم إظهار مشاعر الغضب كجزء من الرسائل الدبلوماسية في السياسات الخارجية للدول. فمثلاً، عبرت فرنسا عن غضبها من إلغاء استراليا صفقة الغواصات لصالح الولايات المتحدة في عام 2021، عبر سحب سفيريها من واشنطن وكانبيرا [19].

 

ثانياً: تحديد الطرف المُلام

 

أي أن الشعور الغاضب من حدث ما يعقبه عادة تحديد الطرف الذي سيتم إلقاء اللوم عليه (أشخاص، سياسات، مؤسسات، جماعات، دول). في حالة الاحتجاجات الشعبية، يتم توجيه اللوم إلى القادة أو النظام السياسي ( مثل، الشيخة حسينة في احتجاجات بنجلايش). أما في حالة التهديد للدول، فيصبح المُلام دولة أخرى أو جماعة أو زعماء مناوئون (مثل إيران وحلفائها في المنطقة بالنسبة لإسرائيل). يتحول الطرف المُلام إلى عدو متصور للغاضبين بفعل سرديات للنخب السياسية تحمله المسئولية عن المشكلة المتسببة في الغضب، ومن ثم، تنشأ ثنائية العدو والصديق في التفاعلات السياسية، وفقاً لمنطق كارل شميت، والتي تحفز الجمهور على الانخراط السياسي أو الحشد في الاحتجاجات أو الصراعات وغيرها.

 

 

من دون تحديد الطرف المُلام أو العدو المتصور قد تحدث حالة من الإرباك تحد من تحويل مشاعر الغضب إلى قوة تعبئة سياسية. فقد درست جافلين [20] مثلاً سلوكيات المحتجين خلال تظاهرات جرت في روسيا بسبب متأخرات الأجور، حيث أشارت إلى أن المشاركين في تلك التظاهرات كانوا يعلمون تحديداً من سيوجه له اللوم، بينما على العكس عندما سألت غير المشاركين كانوا مرتبكين، ولا يعرفون الطرف المُلام.

 

من دون تحديد الطرف المُلام أو العدو المتصور قد تحدث حالة من الإرباك تحد من تحويل مشاعر الغضب إلى قوة تعبئة سياسية. فقد درست جافلين [20] مثلاً سلوكيات المحتجين خلال تظاهرات جرت في روسيا بسبب متأخرات الأجور، حيث أشارت إلى أن المشاركين في تلك التظاهرات كانوا يعلمون تحديداً من سيوجه له اللوم، بينما على العكس عندما سألت غير المشاركين كانوا مرتبكين، ولا يعرفون الطرف المُلام.

 

 

ويلعب عادة القادة والنخب والحكومات دوراً أساسياً ليس فقط في إشعار المجتمع بالخطر لحفز مشاعره الغاضبة، وإنما تحديد الطرف المسبب لغضبهم، ومن ثم يبررون ما يقومون به من إجراءات وسياسات لمواجهة هذا العدو. على سبيل المثال، تركز خطابات ترامب في الولايات المتحدة أو قادة اليمين الشعبوي في أوروبا على أن المشكلات الداخلية في بلدانهم تعود إلى تدفقات المهاجرين، بالتالي يحولون غضب الجمهور إلى تلك الفئة، بما يسهم في تهيئة البيئة العامة لاتخاذ سياسات تقييدية للجوء أو الهجرة. انعكس ذلك مثلاً في اتخاذ ترامب في يناير عام 2017 إثر دخوله البيت الأبيض قراراً بوقف دخول اللاجئين ومنع دخول مواطني سبع دول إسلامية إلى الولايات المتحدة.

 

ثالثاً: خلق التحيزات الداخلية

 

مع تحديد المثير للغضب والعدو المتصور، ينشأ نوع من التحيز الداخلي في أوساط جماعة ما ضد الطرف المسبب للغضب الذي يعيق تطلعاتهم، وبالتالي، يسهل إحداث التضامن وتعبئة المشاعر الجماعية التي تمثل مصدراً للدعم السياسي للقادة والحكومات في الأزمات والصراعات. على سبيل المثال، مع تحول هجوم حماس إلى مثير للغضب للحكومة والمجتمع الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر 2023، نشأت مشاعر جماعية إسرائيلية متحيزة وداعمة نسبياً للإجراءات الإسرائيلية التصعيدية ضد الفلسطينيين سواء لاستعادة الرهائن أو تدمير قدرات حماس العسكرية. يُظهر هنا استطلاع لمركز بيو للأبحاث أجري بين مارس وإبريل 2024، أن 39% من الإسرائيليين يقولون إن الرد العسكري الإسرائيلي ضد حماس في غزة كان صحيحاً، بينما يقول 34% إنه لم يذهب بعيداً بما فيه الكفاية، بينما اعتقد 19% إنه ذهب بعيد جداً[21].

 

يتعزز أكثر التحيز والتضامن الداخلي لجماعة ما ضد مصدر تهديد يثير غضبها إذا كان هنالك سياق أيديولوجي يحمل أفكاراً وخطابات قومية في بعض الدول والمجتمعات، كما حال خطابات بعض قادة اليمين المتطرف في أوروبا، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي يستثير غضب مجتمعه ضد المهاجرين، حيث قال في إحدى تصريحاته: “لا نريد أن نكون عرقاً مختلطاً قد يمتزج بغير الأوربيين”[22].

 

تلك النوعية من الأفكار المتطرفة التي تعزز التضامن الغاضب قد تنعكس على نمط السلوكيات الاحتجاجية، فقد لاحظت دراسة على 2809 احتجاج بين عامي 2006 و2020 في 101 دولة تغطي أكثر من 93% من سكان العالم، أن هنالك انتقالاً في ظاهرة الاحتجاجات العالمية من تيار اليسار إلى اليمين المتطرف، والأهم من المطالبة بالحقوق للمشاركين فيها إلى الدعوة لإنكار حقوق الآخرين داخل المجتمعات[23].

 

رابعاً: التحول للإجراءات العقابية

 

يتحول الغضب في تلك المرحلة من المشاعر والخطابات إلى إجراءات وسلوكيات انتقامية وعقابية تجاه مصدر التهديد أو العدو المتصور، مستنداً إلى قوة التحيز والتضامن الداخلي، وهو يستهدف ثلاثة أمور أساسية: إما إلحاق الضرر بالطرف المتسبب في الغضب، أو إضعاف الوضع العام الذي حفز ذلك الطرف على الإتيان بالمثير الغاضب، أو اتخاذ تدابير تمنع تكرار الأفعال التي تثير الغضب. تتحقق تلك الأهداف عبر أدوات عنيفة كممارسة العنف أو الإرهاب، أو سلمية كالاحتجاجات أو المشاركة الكثيفة في الانتخابات لصالح مرشح دون آخر (التصويت العقابي).

 

إلا أن انتقال غضب الفاعلين السياسيين من الشعور إلى السلوك العقابي يتطلب عوامل وسيطة في البيئات السياسية، كالموارد المتاحة، الحوافز العقلانية، الخيارات الاستراتيجية، العوامل الثقافية، بنية الفرص السياسية وغيرها[24]. فالانخراط الكثيف للناخبين في الانتخابات لمعاقبة مرشح أثار غضبهم بسبب سياساته، يستلزم موارد حزبية للحشد وآليات نزاهة وثقة في نظام التصويت. كذلك، فإن تحويل الغضب إلى ممارسة إرهابية عنيفة يتطلب خطاباً أيديولوجياً وتجنيداً للأنصار وموارد مالية وتسليحية وغيرها. ويسرى هذا المنطق على الدول والمجتمعات إذا حولت مشاعرها الغاضبة إلى سلوكيات لمجابهة التهديدات.

 

واذا غابت العوامل الوسيطة، فقد لا يتم التعبير عن الغضب في سلوكيات عقابية أو يتم التعبير عنها مع إهمال الحسابات العقلانية لصالح الشعور بالرضا النفسي للغاضبين لمجرد إحداث الانتقام أو الضرر بالاخرين ومن ثم لا يتم حل مشكلة الغضب بل وقد ينتج غضباً مضاداً للطرف المستهدف بالعقاب [25]. على سبيل المثال، أسقط الغزو الأمريكي نظامي أفغانستان والعراق بعد أحداث 11 سبتمبر كجزء من تحويل الشعور بالغضب إلى إجراءات انتقامية، لكنه لم يستطع حل المشكلات الهيكلية السياسية والاقتصادية في البلدين التي تنتج مصادر التهديد، مما حفز على بروز غضب مضاد تجلى في تنظيمات إرهابية قاعدية وداعشية في العراق، وعودة حركة طالبان في أفغانستان ثانية للسلطة بعد عقدين من سقوطها.

 

خامساً: التعامل مع مشكلة الغضب

 

قد يتم التعامل مع الغضب السياسي إما عبر القمع (أي جعل التعبير عن الغضب لفظياً وسلوكياً أكثر كلفة للأفراد أو الجماعات أو الدول)، والترويض (تبريد الغضب عبر تشتيت الانتباه لمحفزات أخرى)، والتنفيس (السماح للغضب بالتعبير عن نفسه لتفريغ الانفعال دون حل المشكلة) أو الاستيعاب ( فهم مسببات الغضب وتبديدها عبر حل المشكلة المتسببة فيه). إلا أن انتهاج أى من تلك الأساليب يتحدد وفقاً لعوامل داخلية وخارجية منها، طبيعة الأنظمة السياسية ومدى ديمقراطيتها وحجم الأزمات المسببة للغضب والسياقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتوازنات القوى إذا كان الغضب متعلقاً بالعلاقات بين الدول.

 

قد تُخمد أساليب القمع والترويض والتنفيس ظاهرة الغضب لفترة زمنية قصيرة أو طويلة، لكنها قد تخلف ورائها مخزوناً من الغضب الكامن والممتد القابل للانفجار ما لم يتم حل المشكلة المسببة للغضب. لهذا السبب، يتم التعامل مع الغضب بطريقة هيكلية لتبديده أو استبداله بمشاعر أخرى تعاطفية أو تضامنية، في مجال حل وتسوية الصراعات.

 

وعرفت مراحل ما بعد توقف الصراعات الأهلية في عدة دول في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، آليات مثل الحقيقة والمصالحة كأسلوب لتبديد الغضب. تتضمن تلك الآليات العقاب والتعويض (يعيدان التوازن النفسي بين الجاني والضحية الغاضبة بعد العنف)، الحقيقة (معرفة ما جرى وتحديد مدى مسئولية الجناة لأن ذلك يقتل الرغبة في الانتقام)، الاعتذار (يظهر إنسانية الجاني ويزيل صورة النمطية كعدو متصور ومن ثم يحجم الغضب ويعزز السلام). أما العفو فهو من أكثر الآليات جدالاً في التعامل مع الغضب بعد وقف الصراعات، لكونه قد يشكل أحياناً حلاً واقعياً للمضي في مسار السلام، لكن إفلات الجناة بجرائمهم قد يُبقي الغضب كامناً بما يهدد بعودة العنف مجدداً [26].

 

 

يتحول الغضب في تلك المرحلة من المشاعر والخطابات إلى إجراءات وسلوكيات انتقامية وعقابية تجاه مصدر التهديد أو العدو المتصور، مستنداً إلى قوة التحيز والتضامن الداخلي، وهو يستهدف ثلاثة أمور أساسية: إما إلحاق الضرر بالطرف المتسبب في الغضب، أو إضعاف الوضع العام الذي حفز ذلك الطرف على الإتيان بالمثير الغاضب، أو اتخاذ تدابير تمنع تكرار الأفعال التي تثير الغضب. تتحقق تلك الأهداف عبر أدوات عنيفة كممارسة العنف أو الإرهاب، أو سلمية كالاحتجاجات أو المشاركة الكثيفة في الانتخابات لصالح مرشح دون آخر (التصويت العقابي).

 

 

دورة متصورة لمراحل الغضب السياسي

 

 

المصدر: إعداد الباحث

 

تفسيرات الغضب من منظور “غياب العدالة”

نالت ظاهرة الغضب تفسيرات عديدة، ففيما تعزوها دراسات طبية إلى عوامل فسيولوجية جسدية كزيادة ضربات القلب وتدفق الدم الشديد، تنظر لها دراسات نفسية كشعور غريزي بالمنطق الفرويدي، فيما يركز علماء الاجتماع على الارتباط بين الغضب والسياقات القيمية والنظمية في المجتمعات[27]. أما الغضب السياسي، فمع ارتباطه بردود الفعل على مخرجات الفاعلين السياسيين، فقد تعددت تفسيراته داخل الدول (سياسات التسلط، التردي الاقتصادي، الانفصال الاجتماعي)، وفيما بينها (تعارض المصالح والسياسات، التهديدات الأمنية، الصراع على المكانة والنفوذ والهيمنة).

 

إلا أن غياب العدالة بدا المنظور الكلي المفسر للغضب السياسي الذي هو استجابة مضادة لسياقات من الظلم والاضطهاد والتهميش والإقصاء. وتستدعي فكرة العدالة كقيمة إنسانية معانٍ، كالإنصاف، عدم الانحياز، المساواة، التوازن، وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين وغيرها، وبالتالي، فهي تؤسس لمعايير أخلاقية وسياسية واجتماعية وقانونية وسياسات عملية. وعليه إن غابت العدالة كإطار حاكم للبيئات العامة، فإنها تحفز على الشعور بالغضب وتحويله إلى سلوكيات.

 

يظهر ذلك الغياب للعدالة، عندما لا تعترف جماعة أو سلطة بالحقوق السياسية لجماعات أخرى في المجتمع، ومن ثم تتأجج مشاعر الغضب لدى الأخيرة، حيث تعمل على حشد أنصارها عبر الصراعات أو العنف أو الانتخابات أو الثورات لانتزاع تلك الحقوق طوعاً أو كرهاً. هنا، يشير المنظر الألماني إكسل هونيث إلى أن ظاهرة الصراعات تنشأ بالأساس في المجتمعات المعاصرة من أجل نيل الاعتراف المتبادل والاحترام والتقدير[28].

 

يتمدد هذا الأمر إلى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذا تعرضت جماعات داخل المجتمعات للفقر أو التهميش أو الحرمان النسبي في توزيع الدخول والموارد أو الإقصاء الهوياتي والثقافي، بما يزيد معضلات التفاوت وعدم المساواة، والحرمان التي تمثل مناخاً مواتياً لحفز مشاعر الغضب. إذ تشير إحدى الدراسات [29] التي فحصت سلوكيات الاحتجاجات العالمية خلال العقدين الأخيرين إلى أنها تظهر أكثر في البلدان مع زيادة عدم المساواة والعكس صحيح. وتعزو ذلك إلى اختلالات العولمة وتداعيات السياسات الرأسمالية التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية على الدول والمجتمعات.

 

لذلك، تزداد مشاعر الغضب أكثر في دول الجنوب مقارنة بالشمال، بفعل تزايد مظاهر غياب العدالة كعدم المساواة والتفاوتات، ناهيك عن الأزمات السياسية والحروب والصراعات والفقر والكوارث البيئية وغيرها. ففي مؤشر جالوب للمشاعر والعواطف في العام 2022، كانت الدول الأكثر غضباً في العالم على التوالي هي: لبنان، تركيا، أرمينيا، العراق، أفغانستان، الأردن، مالي، سيراليون. بل إن المشاعر والعواطف السلبية ككل التي يرصدها ذلك المؤشر (التوتر، القلق، الألم الجسدي، الحزن، الغضب) تميل في نتائجها أكثر لمجموعة من الدول والمجتمعات في أفريقيا والشرق الأوسط مقارنة بأوروبا وأمريكا الشمالية [30]. وتتعمق معضلة الغضب لدى تلك الدول بفعل طبيعة هيكلها الديمغرافي الذي يغلب عليه شريحة الشباب، بما يجعلهم أكثر قابلية للمشاعر الغاضبة مقارنة بشرائح كبار السن، خاصة مع امتلاكهم طاقة انفعالية أكبر وتوقعاتهم مرتفعة (تمكين سياسي، وظائف، بناء أسر، وغيرها) [31].

 

من جانب آخر، تظهر غياب العدالة في السياسة العالمية، بفعل سياسات بعض القوى الكبرى التي تتسم بالازدواجية والانحياز وتوظيف اختلالات القوى المادية والمعنوية لتحقيق أهدافها ومصالحها على حساب الآخرين، مما يثير غضب الدول والمجتمعات الأخرى المتأثرة بتلك السياسات على نحو يظهر في الشعور الغاضب في المنطقة العربية إزاء الانحياز الأمريكي الكامل لإسرائيل في حرب غزة الأخيرة، وهو ما انعكس في نتائج استطلاع للرأي أجراه البارومتر العربي في أواخر 2023 ومطلع 2024 والتي تظهر تراجع مكانة الولايات المتحدة لدى المواطنين العرب، بل إن ما فقدته الولايات المتحدة من شعبية ربحته منافستها الصين في المنطقة، وفقاً لهذا الاستطلاع[32].

 

المعضلة أن السياقات العالمية غير العادلة تتضافر مع تداعيات انتشار العولمة لتنتج حالة من الغضب المتبادل بين تيارات دينية وقومية متطرفة تمهد الطريق لصعود سياسات الهوية الشرسة التي لا تتورع عن محو الآخر وإبادته أيديولوجياً، ناهيك عن عودة مفاهيم الاستثناء والنقاء العرقي والاعتقاد بأن جماعة ما تملك سمات فريدة، وفقاً لأرجون أبادوري [33]. يصبح هنا العنف والإرهاب والإبادة الجماعية كسلوكيات غاضبة هي وسائل لإعادة إنتاج هوية أكثر استقراراً ويقيناً ثقافياً كما الصراع بين الهوتو والتوتسي في رواندا خلال تسعينيات القرن العشرين، حيث رأت كل جماعة أن الأخرى تشكل خطراً وجودياً عليها، وبالتالي سعت لافتراسها. هذا المنطق قد ينسحب أيضاً على حالة التوحش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين بعد هجوم 7 أكتوبر 2023 ليس فقط من خلال ممارسة الإبادة الجماعية للأجساد وإنما أيضاً للهويات والرموز الثقافية في قطاع غزة.

 

قد يعجبك ايضا