الحظ، ورقة يانصيب والمحطة الأخيرة

د. توفيق رفيق التونچي

الأندلس مهبط للإبداع الإنساني وعبر العصور شهدت حركة فكرية حيث شارك العلماء والمفكرين الشرقيين في دفع عجلة تطور الفكر الإنساني وترجم كتاباتهم لتصبح الحجر الأساس للتعليم العالي في اوربا وبذلك تمكنت من كسر جمود القرون الوسطى والسمو عاليا وصولا الى ما هي عليها دولها من تقدم اليوم في حين بقى السقف المعرفي في الشرق ساكنا لا يتجاوزها البشر. اليوم رافقت صديقا لعيادة احد الأصدقاء في مستشفى جامعة مدينة ملقا العريقة.

البناية الكبيرة وملحقاتها واقعة على أطراف المدينة. كان علينا ان نذهب إلى محطة المترو العصري والقريبة من مجمع محطة القطار والحافلات ومخازن التسوق في مركز المدينة. مدينة التلاقي من مدن الأندلس الجميلة يزورها الملايين من محبيها كل عام ومطارها القريب من مركز المدينة تستقبل الملايين من الزوار كل عام خاصة في فصل الصيف رغم اختفاء الملامح الشرقية لعمارة المدينة إلا أنها لا تزال تحتفظ بالقصر الأموي وربما كان المكان فقط للاستجمام أو فقط لإقامة قادة الجنود لان زخارفها قليلة وفيها باحات وحدائق جميلة يكاد المرء وهو يتجول في غرفها وأروقتها يسمع صدى أصوات بين جدرانها أصوات الجنود.

القصر موروث ثقافي إنساني تم المحافظة عليه وعبر الزمن لأن هنا في ربوع الأندلس تلاقي الثقافات والأقوام، الشعراء والرسامين والفنانين والعظماء حتى حين يتجول المرء في “القصبة “وهكذا سماه الإسبان يرى كل تلكً الثقافاتً ترجمت من على جدرانها والتي شيدت على مقربة من المسرح الروماني الواقع على اقطاف جبل فرعون وهو تله مرتفعة خضراء تشرف على ساحل البحر الأبيض المتوسط والذي يمكن رؤية الحصن القلعة العسكرية الواقعة على قمته. الجدير بالذكر ان العديد من المساجد حورت لتكون كنائس بعد استعادة الأسبان أ لكامل الأراضي شبه جزيرة الليبيرية وانتهاء حكم الإسلامي فيها.

نموذج ذلك نراه في احد اكبر مساجد اوربا واعني المسجد الأموي الذي بدأ بناءه في عهد الخليفة عبد الرحمنً الداخل في مدينة قرطبة. اليوم يعيش عدد كبير من المسلمين على الأراضي الإسبانية وفيها العديد من المساجد حيث يزاولون عباداتهم فيها بحرية كاملة وقد لاحظت حتى تزين الشوارع في رمضان وكتابة لوحات منيرة كتب عليها رمضان كريم خاصة في الأحياء التي يسكن فيها جالية مهاجرة او لاجئة من دول المغرب العربي و باكستان ومن شمال أفريقيا ودول إسلامية أخرى الجميل كذلكً انك تشعر بالحضور الشرقي في كل مكان وحتى اللغة الإسبانية فيها مفردات كثيرة من العربية ولي شخصيا تجربة ناهزت النصف قرن في دول الغرب في التغرب في مدنها إلا أن شعوري ها هنا في الأندلس مختلف وكأني أتواجد في مدينة شرقية ووجوه عهدت عليها في بغداد ودمشق وبيروت وتركيا

أعود إلى حديثي الذي بداته لأروي لكم ما حصل لي هذا اليوم رغم انها نهاية الأسبوع والمواجهات مسموحة لعيادة المرضى في المستشفى الجامعي حسب ما كنت اعرف، لم تسمح لنا موظفة الاستعلامات العابسة بالدخول ولا ان نترك كيسا من الطعام لصديقنا الراقد في المستشفى طالبةً حمل بطاقة خاصة تؤهلنا لدخول للمستشفى. هذا رغم معرفتها بان الموظفون لا يعملون نهاية الأسبوع. الأمر اكثر غربة بأننا لمً نكن ننوي حتىً دخول المستشفىً، بل فقط رؤية صديقنا في الكافيتريا الملحقة بالبناية والتي تقع بوابتها خارج البناية. لكن بعد ان تمكن صديقي من التواصل مع صديقنا سمح له بدخول المستشفى وكانت قد ولت الموظفة العابسة وتركت مكانها لحارس البوابة الوسيم والطيف ذو الملامح الشرقية والذي سمح لصديقي الدخول بينما جلست بنفسي على مصطبة خارج المستشفى لاستمتع بحرارة شمس الخريف الأندلسيّ مبتعدا، وكي لا أعيش أجواء المستشفى الكئيب. وأنا سارح استمتع بحرارة الشمس لفت انتباهي كابينة صغيرة لبيع تذاكر اليانصيب كتب عليها باللون الأصفر (ونس *) عند المدخل وحين التفت وجدت أخرى في المدخل الآخر وزاد من تعجبي ان احدى السيداتً هرعت إلى الكابينة لشراء بطاقة يانصيب قبل دخولها للمستشفىً.
فقلت لنفسي ربما من عادات أهل هذه الديار جلب هدية عند عيادتهم المرضى في هذه والهدية قد تكون ورقة يانصيب.

اليانصيب يزداد شراءه مع زيادة الفقر بصورة عامة. أتذكر في الستينات كانت تباع ورقة يانصيب في العراق تحت تسمية ” يانصيب إنشاء المستشفيات ” وكان باعة أوراق اليانصيب يتجولون في شوارع بغداد وهم ينادون بأعلى صوتهم عن مقدار النقود التي يمكن ربحها في حال فوز الورقة الرابحة صائحين: باچر السحب.

وقد لاحظت ذلك في الغرب الإقبال يزيد على شراء اليانصيب مع نهاية كل عام (تسمى يانصيب عيد الميلاد في إسبانيا ) ولذا اعتاد الناس لشرائها والمساهمة بطريقة غير مباشرة في تحسين الحالة المعيشية للبعض الناس وتعتبر يوم سحب الأرقام الفائزة للجوائز النقدية عيدا وطنيا يجتمع العوائل أمام شاشة التلفاز جميعا للمشاركة في هذا الحدث المفرح للبعض ويشترك فيها الأطفال في ترديد المبالغ الرابحة بصوت عالي وتنقل مباشرة عن طريق قناة التلفاز الحكومي ، هنا في إسبانيا ، عشية يوم عيد الميلاد المجيد من كل عام ومن الملاحظ كذلك ان برامج التلفزيون يواكب هذا السلوك الجماعي وتنتشر أكشاك بيع أوراق اليانصيب في معظم مدن المملكة وهي المكان الوحيد الذي رأيت فيه الناس واقفين في طوابير ينتظرون دورهم في شراء ورقة يانصيب ولا يعتبر من الميسر أو القمار المحرم ، حسب بعض المفسرين في ورقة اليانصيب يتساوى الجميع نسبيا دون تفرقة وكل يمكن شرائها لكن قبل أجراء السحب طبعا لا فرق بين غني وفقير وزعيم وصعلوك رجل أو سيدة …..لأنه في واقع الأمر يشتري المرء رقما على ورقة ولا يحتاج إلى علم اوً معرفة أولية بالرياضيات المسالة ببساطة كما يقال “قسمة ونصيب ” وعند فوزه يحتاج فقط إظهار تلك الورقة الرابحة ليتحول في يومً وضحاها إلى (مليونير ) وبالعملة الصعبة كذلك.
هذا التوزيع العادل للحظ لا نجده دوما في الحياة فالغلبة للأقوى في الطبيعة أما أوراق اليانصيب فحظوظ الفوز فيها قسم بالعدل يتساوى أمامهم الجميع.
قارئي الكريم ان المستشفى بحد ذاته بيئته سريالية وحالة عجيبة ونادرة ففيها يلتقي كل المتناقضات مما تراه بينً أروقتها. ففي ردهاتها تجد من يتألم ويبكي ويصيح وتسمع أنين أم تعيش دقائق الأخيرة من مخاض الولادة وربما تسمع هلاهل النسوة هناك احتفالا بمولود جديد وفي الطرف الآخر نواح لعزيز غادر روحه إلى السماء.
يبقى التساؤل المحق؛ من ذى الذي يفيده مال أو جاه، هذا إذا خالفه الحظ وكان رقم ورقة اليانصيب من بين الأرقام الفائزة بالجائزة، بعد الفراق وترك الروح وراءه البشر والديار.

أتمنى لكم جميعا عاما سعيداً وتحقيق أمانيكم ليرفرف حمامة السلام البيضاء في سماء ربوع أوطانكم.

الأندلس ٢٠٢٤

استدراك؛ *حول مؤسسة التي تقومً ببيعً بطاقات اليانصيب والألعاب على الإنترنت في مملكة إسبانيا وهي تعتبر مؤسسة غير ربحية تعود عائداتها إلى المساهمة في إيجاد فرص العمل لذوي الإعاقة وتوفير فرص التعليم لهم وطبعا لتحقيق أحلام الناس وأمنياتهم بالحصول على ثروة في حياتهم.

للمزيد من المعلومات حول ONCE، يمكنك الذهاب إلى؛ www.once.es.

قد يعجبك ايضا