طوني بولس
يمر لبنان بأكثر المراحل تعقيداً في تاريخه، إذ يواجه أزمة متعددة الأبعاد تمزج بين الانهيار الاقتصادي، التصعيد الأمني، والتفكك السياسي والمؤسساتي، مما حول البلاد إلى مسرح لصراعات داخلية وخارجية، أدخلته في دوامة لا تزال مخارجها ضبابية.
اقتصادياً، يقف لبنان على حافة الانهيار التام. أعوام من الفساد وسوء الإدارة أفرغت خزائن الدولة، وأدت إلى انهيار العملة المحلية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات قياسية، فيما أتت الحرب الحالية لتفاقم الوضع بصورة دراماتيكية، فعطلت تماماً الأنشطة الاقتصادية، مما أدى إلى خسائر تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، وسط ترقب للفاتورة الأكبر لهذه الحرب، التي ستتضح مع إطلاق آخر رصاصة.
أمنياً، يعيش اللبنانيون يومياً تحت وطأة الحرب الثالثة، التي عمقت معاناة السكان وزادت حالات النزوح والدمار، أما سياسياً، فإن الشلل الكامل يسيطر على المؤسسات الدستورية، مع استمرار الفراغ في سدة الرئاسة، وغياب توافق بين القوى السياسية على خريطة طريق واضحة للخروج من الأزمة.
للوقوف عن الوضع اللبناني بأكمله، وتحديداً الملف الاقتصادي، ومرحلة ما بعد الحرب، أجرت “اندبندنت عربية” حواراً مع وزير الاقتصاد والتجارة اللبناني أمين سلام الذي استعرض بصورة خاصة خسائر لبنان الكبيرة بسبب هذه الحرب، ناهيك بفرص لبنان للاستفادة من المبادرات الإقليمية والدولية، والمسارات المتاحة للخروج من الأزمات.
بعيداً من الملف الاقتصادي، يعلق سلام الذي كان يوجد في أميركا خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية التي فاز بها دونالد ترمب، على عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض ويقول، إن إدارة ترمب ستعيد فور تسلم مهامها تحريك ملف السلام في الشرق الأوسط، ومن ضمن أولوياته السعي لتوقيع اتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل، كاشفاً بصورة حصرية لـ”اندبندنت عربية” عن معالم الخطة الأميركية للملف اللبناني بعد انتهاء الحرب التي تتألف من ثلاث نقاط تشمل “انتخاب رئيس للجمهورية ليفاوض على الاتفاقات الدولية وتشكيل حكومة جديدة، وتحصين الجيش ودعمه عسكرياً وأمنياً وإعادة انتظام العمل القضائي في البلاد”.
كذلك كشف في حديثه عن وجود تفاهمات دولية بدأت تظهر ملامحها، بين واشنطن وطهران تحديداً حول تموضع “حزب الله” في الداخل اللبناني، وقال “التفاهمات تقضي بأن يتحول الحزب من حزب عسكري إلى حزب سياسي”.
وفي سياق الحديث عن المنطقة ومستقبلها، تطرق سلام إلى أهمية رؤية السعودية 2030 وتأثيرها الإقليمي على مستقبل الشرق الأوسط، بما في ذلك لبنان، معتبراً أنها ليست مجرد خطة اقتصادية، بل استراتيجية شاملة تهدف إلى تحقيق الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي في المنطقة، إذ تمثل مشروعاً طموحاً يعكس نهجاً جديداً في إدارة العلاقات الإقليمية، وأن لبنان لديه فرصة حقيقية لأن يكون جزءاً من هذه الرؤية إذا أحسن إدارة قراراته الداخلية”.
بين الخسائر والتعافي
ندخل مع سلام إلى الملف الأهم بالنسبة له وهو الخسائر الاقتصادية بسبب الحرب التي شهدها لبنان لسنة وشهرين تقريباً، وهنا يكشف عن أن البلد “يحتاج من ثلاث إلى خمس سنوات ليتعافى” من الحرب التي “أعادته 10 سنوات إلى الوراء”.
وكشف سلام حجم الأضرار التي لحقت بلبنان نتيجة الحرب المستمرة، مؤكداً أن الخسائر تجاوزت كل التوقعات. وقال، “الأرقام التي كشف عنها البنك الدولي، والتي قدرت الخسائر بنحو 10 مليارات دولار لا تمثل سوى جزء من الصورة الكاملة. نحن نعتقد أن الخسائر الفعلية، بما في ذلك الأضرار المباشرة وغير المباشرة، تراوح ما بين 15 و20 مليار دولار”.
وأضاف، “هذه الأرقام تشمل الدمار في البنى التحتية، وتضرر القطاعات الاقتصادية الكبرى مثل الزراعة والصناعة والسياحة، إضافة إلى الانعكاسات الاجتماعية الخطرة. نحن نتحدث عن نزوح أكثر من مليون شخص، مع ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة. فقط خلال الأشهر القليلة الماضية، فقد أكثر من 400 ألف شخص وظائفهم، مما زاد من حدة الأزمة الاقتصادية”.
ويؤكد وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أن هذه الأرقام مرشحة للارتفاع في ظل استمرار النزاع، مما يجعل الحاجة إلى وقف إطلاق النار أمراً ملحاً، لافتاً إلى أن “كل يوم يمر في ظل الحرب يعيدنا سنوات إلى الوراء، ويزيد من الأعباء التي ستواجهها أي جهود لإعادة الإعمار”.
أزمة فوق أزمة
كشف سلام عن تداعيات الحرب على الأوضاع الاجتماعية في لبنان، مشيراً إلى أن الأزمة الحالية أضافت أعباء جديدة إلى وضع اقتصادي كان يعاني الانهيار أصلاً. وقال، “نحن أمام كارثة إنسانية حقيقية. النزوح الجماعي والبطالة المتزايدة جعلا من الصعب على اللبنانيين تأمين حاجاتهم الأساسية. حتى القطاع الصحي يواجه ضغوطاً هائلة في ظل نقص الموارد، لافتاً إلى أن “الأزمة الاقتصادية الراهنة تعني أن لبنان لا يستطيع تحمل مزيد من الحروب أو النزاعات. نحن في حاجة إلى وقف فوري لإطلاق النار وإلى خطة طوارئ لتخفيف العبء عن الجميع”.
لدى سؤالنا عن تحديد الأضرار خصوصاً مع انتهاء الحرب، يكشف سلام أن الحكومة تعمل على إنشاء منصة إلكترونية للتواصل مع القطاع الخاص لتقييم الأضرار ودعم المؤسسات المتضررة. وقال، “هذه المنصة ستتيح لنا جمع البيانات اللازمة لتقديم صورة شاملة عن حجم الأضرار، مما يسهل عملية جذب الدعم الدولي”.
إعادة الإعمار
وحول خطط إعادة الإعمار، أكد سلام أن المجتمع الدولي مستعد لدعم لبنان، شريطة التزامه بالإصلاحات الضرورية. وقال، “لقد ناقشنا في واشنطن إمكانية إنشاء صندوق دولي لإعادة الإعمار، تشارك فيه كل من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والدول العربية. الفكرة هي توجيه المساعدات بصورة شفافة لضمان استخدامها في مشاريع تنموية حقيقية.”
وكشف عن أن إحدى الخطط التي يعمل عليها تشمل إعادة تشغيل مطار “القليعات” في شمال لبنان، كجزء من مشروع أوسع لتحسين البنى التحتية وتعزيز النشاط الاقتصادي.
وانتقد سلام بشدة ممارسات بعض التجار الذين استغلوا الأزمة لتحقيق مكاسب غير مشروعة. وشدد على “ارتفاع الأسعار بصورة كبيرة ليس مبرراً بالكامل بظروف السوق العالمية. هناك استغلال واضح من قبل بعض تجار الأزمات الذين يضاعفون معاناة المواطنين”.
وأكد أن وزارة الاقتصاد تعمل على تكثيف الرقابة ومعاقبة المخالفين، مشيراً إلى أن التكنولوجيا تلعب دوراً مهماً في تحسين أدوات الرقابة، معتبراً أن “ما نحتاج إليه الآن هو نظام رقابي أكثر كفاءة، لضمان عدالة الأسعار وحماية المستهلك”.
المقاربة الأميركية
وبالعودة إلى الجهود الدولية لوقف الحرب في لبنان ومقاربة الإدارة الأميركية الجديدة للملف اللبناني، يكشف سلام أنه خلال زيارته الأخيرة للعاصمة الأميركية واشنطن، عقد سلسلة لقاءات مع مسؤولين أميركيين ومستشاري الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وأضاف “ما لمسناه في واشنطن نية حقيقية لدى الإدارة المقبلة لدعم استقرار لبنان. لقد أكد مستشارو ترمب، بمن فيهم مسعد بولس، أن لبنان سيكون ضمن أولوياتهم”. وأشار إلى أن فريق الرئيس الجمهوري ينظر إلى لبنان كجزء من استراتيجية إقليمية أوسع تهدف إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط. وقال، “الإدارة الأميركية الجديدة ترى أن بلادنا يمكن أن تكون نموذجاً للاستقرار إذا تم التعامل معه بجدية”.
وعلى رغم التحديات، أعرب سلام عن تفاؤله بإمكانية أن يشهد عام 2025 بداية جديدة للبنان. وقال، “مع تغيير الإدارة الأميركية، ووجود دعم دولي وإقليمي واضح، يمكن أن يكون عام 2025 نقطة تحول إيجابية. ولكن النجاح يعتمد على قدرتنا كلبنانيين على اتخاذ قرارات حكيمة ومسؤولة”.
انقسامات سياسية
على الصعيد الداخلي، أقر سلام بوجود تحديات كبيرة تعرقل اتخاذ القرارات اللازمة لإنقاذ لبنان. وقال، “لبنان يعيش حالة انقسام سياسي حاد، تجعل من الصعب تحقيق توافق داخلي حول القضايا المصيرية. ولكن مع ذلك، نحن في حاجة إلى تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الضيقة”.
“لبنان أمام خيارين، أولهما الانضمام إلى رؤية 2030 والاستفادة من الاستقرار الإقليمي، أو البقاء رهينة النزاعات والفوضى… لبنان أمام فرصة تاريخية للخروج من أزمته، لكن الوقت ينفد والمطلوب الآن هو قرارات شجاعة من الجميع، وتغليب مصلحة الوطن على الحسابات الضيقة”.
وفي ما يتعلق بدور “حزب الله” في المفاوضات، أوضح الوزير أن الحزب يلعب دوراً محورياً في المشهد الحالي، مضيفاً “لا يمكن تجاهل حقيقة أن الحزب هو أحد الأطراف الرئيسة في النزاع الحالي. لذا، فإن أي حلول يجب أن تأخذ في الاعتبار موقفه وقدرته على اتخاذ قرارات استراتيجية تصب في مصلحة لبنان ككل”.
كما شدد وزير الاقتصاد على أن “التحدي الأكبر يكمن في إيجاد صيغة توافقية تضمن الحفاظ على سيادة لبنان مع الالتزام بالقرارات الدولية، مثل القرار 1701. هذا يتطلب حواراً داخلياً صادقاً وإرادة سياسية قوية”.
رؤية 2030 وفرصة لبنان
وفي سياق الحديث عن المنطقة ومستقبلها، تطرق سلام إلى أهمية رؤية السعودية 2030 وتأثيرها الإقليمي على مستقبل الشرق الأوسط، بما في ذلك لبنان، معتبراً أنها ليست مجرد خطة اقتصادية، بل استراتيجية شاملة تهدف إلى تحقيق الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي في المنطقة، إذ تمثل مشروعاً طموحاً يعكس نهجاً جديداً في إدارة العلاقات الإقليمية، وأن لبنان لديه فرصة حقيقية لأن يكون جزءاً من هذه الرؤية إذا أحسن إدارة قراراته الداخلية”.
وأكد أن الرؤية السعودية تعتمد على تحقيق “نزاعات صفر” في المنطقة كشرط أساسي لتحفيز التنمية الاقتصادية، وأن هذا المسار يشمل جميع الدول العربية، بما فيها لبنان، الذي يمكن أن يستفيد بصورة كبيرة إذا انضم إلى هذا القطار، إذ تشمل رؤية 2030 أيضاً توفير بيئة سياسية مستقرة تخدم جميع شعوب المنطقة.
وأضاف، “لبنان لديه موقع استراتيجي يجعله بوابة بين الشرق والغرب. فإن الأمر يتطلب من لبنان القيام بخطوات إصلاحية واضحة أبرزها الالتزام بالقرارات الدولية، والعمل على إزالة التوترات الداخلية والخارجية المتصلة به”.
وختم مؤكداً أن “لبنان أمام خيارين، أولهما الانضمام إلى رؤية 2030 والاستفادة من الاستقرار الإقليمي، أو البقاء رهينة النزاعات والفوضى… لبنان أمام فرصة تاريخية للخروج من أزمته، لكن الوقت ينفد والمطلوب الآن هو قرارات شجاعة من الجميع، وتغليب مصلحة الوطن على الحسابات الضيقة”.
الأنديبندنت