رشيد القندرجي … ريادة وتأصيل لفن المقام العراقي

 

متابعة التآخي

رشيد القندرجي قارئ المقام العراقي رشيد ابن علي بن حبيب بن حسن والملقب بالقندرجي والذي تربع على عرش قراءة المقام في النصف الأول من القرن العشرين والذي كان له ثقلا وحضورا كبيرين في الأجواء الموسيقية التي كانت شائعة في بغداد في تلك الفترة. ولد عام 1886 وتوفي عام 1945 وجاء لقبهُ (القندرجي) لأنه امتهن مهنة صناعة الأحذية.

حياته

ولد عام 1886 م من ابوين فقيرين، وبسبب الفقر لم يدخل إلى المدرسة ليتعلم فبقي اميَّاً، وانصرف منذ صغره إلى الأعمال الحرة، فتعلَّم صناعة الاحذية في أحد المعامل البغدادية وسار لقبه من هذه المهنة. نشأ وهو يحب الغناء حتى جالس كبار المغنين يسمع منهم، فتُلمذَ على يد المطرب الكبير احمد الزيدان (1832-1912) مؤسس الطريقة الزيدانية، ولازمه حتى وفاته. وحضر لهُ الكثير من مجالس قراءة المقام، وبدأ رشيد يقرأ المقام بطريقة الزير التي اشتهر فيها فيما بعد.

توفي والده الذي كان يعمل خرازا (أي بائع خرز) وعمره لا يتجاوز الثماني سنوات، اشتغل في صغره عند محمد الأفغاني كصانع للأحذية (قندرجي) في عقد النصارى ومن هنا جاء لقبه، ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره دخل في الجيش التركي ثم صار سراجا في معمل (العباخانة) إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، أخذ المقام عن أشهر الاساتذة والقراء الذين عاصرهم خلال تلك الفترة الا ان استاذه الأول كان احمد زيدان وبعد افتتاح إذاعة بغداد عام 1936 في الأول من تموز عام 1936 في عهد وزارة ياسين الهاشمي الثانية عين رشيد خبيرا للمقام العراقي وقد قدم العديد من الحفلات الغنائية حتى يوم وفاته. وبالرغم من عدم معرفته القراءة والكتابة كان عارفاً بأدق تفاصيل الموسيقى وبالأخص في مجال المقام العراقي، وبالرغم من اندثار طريقته إلا انها بقيت صفحة تأريخية فنية جديرة بالذكر والاحتفاء.

حصل القندرجي على مرتبة عالية في الغناء شهد عليها كل مقاميو عصره ومستمعيه كتلك المرتبة التي كان استاذه احمد زيدان قد حصل عليه فقد بدأ نجم رشيد القندرجي يلمع في سماء الغناء كمطرب بارع للمقامات العراقية فأخذ طريقة للغناء في الاماكن العامة. وفي تلك الفترة كان للمقاهي دور في شهرة اصحاب المهارات الرياضية والحكواتية (الروز خونيون) واسطوات لعب المحيبس لذلك فقد بدأ القندرجي يغني في مقاهي بغداد التي كانت مكاناً طبيعياً ومرتعاً لفن المقامات والبستات العراقية والبغدادية بشكل خاص، فمقهى القيصرية وصاحبها طه الكهوجي ومقهى الشط في المصبغة التي تقع في شارع البنوك وصاحبها حسن صفو ومقهى الشابندر قرب القشلة والتي كانت قرب محاكم البداءة في بغداد، ومن هذه المقاهي انتشر صيت رشيد القندرجي وأخذ طريقة نحو دار الإذاعة العراقية في الصالحية واصحبت تحيا له حفلات خاصة تقيمها دار الإذاعة بمصاحبة الفرقة الموسيقية البغدادية التي عرفت فيما بعد بالجالغي البغدادي وقد اسهمت هذه الحفلات في شهرته حتى تحركت شركات تسجيل الاغاني على الاسطوانات اليه ووقعت معه عقداً لتسجيل مجموعة كبيرة في المقامات العراقية والاغاني البغدادية.

وكان بسبب فقره وولعه بالغناء ونتيجة لظروفه السيئة لم يفكر بالزواج وبقي أعزبا طيلة حياته حتى وافاه الاجل في الثامن من اذار عام 1945م الموافق 8/ صفر 1362هـ.

 

 

 

قارئ مقام من الطبقة الراقية

عاصر القندرجي الكثير من المطربين امثال نجم الشيخلي ومحمد القبانجي وامتد غناؤه إلى الاربعينيات، واعتبر من الطبقة الراقية التي اشتهرت بقراءة المقام العراقي، وجعل أسلوبه المميز في قراءة المقام مدرسة جديدة في هذا المجال وتميز بطبقات الصوت العليا، كما تأثر به عدد من الشخصيات من تلامذتهِ امثال (عبد القادر حسون، إسماعيل عبادة، مكي الحاج صالح، وسيد محمد البياتي). وكان مولعاً بجلسات المقام العراقي حيث إنه كان يحضرها منذ طفولتهِ جالساً تحت ما يسمى بـ (التخت) ليستمع لمطربي المقام العراقي.

أسلوبه في الغناء

إن إبراز الشخصية أو النكهة البغدادية في قراءة المقام لدى هذا الفنان تبقى سمة متميزة، وصوته الطبيعي شجي وذو عذوبة نادرة يساعد على إبراز هذه الشخصية، ولو قُدّر لهذا الفنان امتلاك مدى واسع وعريض في حنجرته يُغنيه عن استخدام الصوت المفتعل (الزير) لربما ترك لنا من رصيد تسجيلاته الشيء النادر والعجيب.

أهم اسرار تميز صوت القندرجي إنه تعرض لحادث تمزق في الاوتار الصوتية مما افقدهُ القرارات وكان هذا سبباً لاستخدامه اسلوب الزير في المقام وبذلك اشتهر القندرجي بالأجوبة فكان غناؤه بأسلوب جواب الجواب، كما أدى المقام الرئيسي والفرعي ونافس في ذلك القبانجي. تتلمذ القندرجي على يد اليهود وسبق القبانجي في الغناء وكان أكثر عازفي المقام العاملين معه من اليهود، كما ادى القندرجي المقام الابراهيمي وتنافس في هذا المقام مع القبانجي وبالرغم من أن لكل منهما اسلوبه في اداء المقام الإبراهيمي إلا ان هذا التنافس ولّد خلافاً بينهما.

 

 

ان المقامات التي غناها رشيد القندرجي والاسلوب الذي يعبِّر به، فيه الكثير من الإشارة إلى المسؤولية التي تحملها رشيد القندرجي في توصيل هذا التراث العريق إلى اللاحقين، فهذا التراث قبل كل شيء، حصيلة محيط بيئي، وتاريخ شعب بأكمله معتمدا في ابداعاته الادائية على الخزائن اللحنية الموجودة في كيان المقام العراقي عبر تاريخه الطويل، والامر يبقى شبه طبيعي، لكون تطور اجهزة الاتصال والنشر والحفظ لازالت في بداياتها آنذاك، فعموم البيئات شبه مغلقة على نفسها وداخل محيطها، ترافقها ثقافة تماثلها.. لذا فإن اساليب وتعابير رشيد القندرجي كانت بمعنى حقيقي جدا. ومن هذه القــصيدة التي غناها القندرجي بمقام الطاهر لأبي فراس الحمداني: (أراك عصي الدمع شيمتـك الصبـر أمـا للهوى نهـي عليـك ولا أمـر..).

تمتع رشيد القندرجي كما تمتع احمد الزيدان من قبل، بفترة نجاح محترمة منذ السنوات الأولى للقرن العشرين، باعتباره رمز عصرها، مما ساعد ذلك على ارساء دعائم روح جديدة وديناميكية منوعة للطرق القديمة التي جسدها في غنائه بصورة جديدة. وقد مهَّدَ ذلك السبيل أيضا لنجاحات طيبة لمغنين ذوي مواهب صوتية ساروا على طريقته التي صاغها بدقة ورسوخ تفوق فيها فنيا على مغني عصره، مما لا ريب فيه ان هذا المستوى الغنائي، هو الذي اوصله كمغني للمقامات إلى قمة العطاء والنجاح.

وقد عرف عن القندرجي انه يجيد الغناء بطريقة الجوابات التي يؤديها والتي يستخدم فيها الحركات والاشارات المعبرة كثيراً، بحيث انه كان في ادائه للغناء يتفاعل ويتأثر وينفعل حتى يكاد جسمه يرتعش من شدة الانفعال خاصة في الطبقات المرتفعة التي تسمى (الجواب) ولم يكن للقندرجي اية صعوبة في غناء كل المقامات فقد كان معلماً يجيدها جميعها ومنها:(البيات، الكلكلي، المخالف، الصبا، الفحم، الرست، الرشت، دشت عرب، عريبون عرب، المحمودي، القوريات، الحيلاوي والمسحيين).

قد يعجبك ايضا