سماح عادل
علي الشوك، كاتب عراقي، اشتهر في الوسط الثقافي العراقي منذ خمسينيات القرن الماضي، وانطلقت شهرته في العالم العربي مع كتاب (الأطروحة الفنطازية) الصادر عام 1970. اعتقل في العراق خلال الخمسينيات، وترك عدة مؤلفات منها (كيمياء الكلمات وأسرار الموسيقى)، (الأوبرا والكلب)، و(مثلث متساوي الساقين) و(فتاة من طراز خاص)، ورواية (فرس البراري)، بالإضافة إلى مقالاته الصحافية الكثيرة.
حياته..
ولد (على الشوك) في جانب الكرخ من العاصمة العراقية بغداد، ودرس الهندسة المعمارية في البداية في بيروت عام 1947، ثم قرر الانتقال إلى الرياضيات التي غيرت حياته بعد أن صار مدرساً لها لمدة عشرين عاماً في العراق. تسببت ميوله اليسارية بهجرته خارج العراق عام 1979، نحو براغ عاصمة دولة التشيك، ومن ثم بودابست، حيث عمل مع منظمة التحرير الفلسطينية وأنجز عدداً من الكتب التي ساعدته في الانتقال إلى لندن عام 1995، ليستمر في الكتابة من هناك.
يعتبر علي الشوك كاتبا عراقيا متنوعا، عصيا على الحصر والتصنيف، فقد كانت الكتابة بالنسبة له تمس كلّ شيء في الحياة. كان روائياً، وعالم رياضيات، وباحثا في الموسيقى والميثولوجيا أيضاً!
كتب «الأطروحة الفنطازية» بداية سبعينيات القرن العشرين ثم بـ(الداداءية بين الأمس واليوم)، كما كتب الرواية، ومنها رباعيته الروائية «السراب الأحمر. سيرة حياة هشام المقدادي»، ولتكون «فتاة من طراز آخر» الحلقة الرابعة والأخيرة من مشروعه الروائي هذا. وسيرته الذاتية الحياتية التي أصدرتها (دار المدى) سنة 2017 وحملت عنوان «الكتابة والحياة» وهو آخر ما كتب.
كتابة اللا مكتوب..
في مقالة بعنوان (قصتي مع الكتابة) يقول علي الشوك: ((في العام 1947. كانت دراستي تتيح لي الفرصة للقراءة المسعورة. كنت أريد أن أقرأ كل شيء لئلا يفوتني القطار. فهناك مئات وآلاف الكتب تنتظرني قبل أن أجرب حظي مع الكتابة، فأنا لا أعتقد أنني سأكون جاهزاً للكتابة قبل قراءة «رسالة الغفران»، و«كتاب الأغاني» لأبي الفرج، و(الأخوة كارامازوف)، و «آنا كارانينا»، و «الأحمر والأسود». مع ذلك كنت متعجلاً على ما يبدو. ففي لحظة ما، عندما كنت أتمشى وحدي في حرم جامعة بيروت الأميركية، في يوم من أيام 1947، اتخذت قراراً في أن أصبح كاتباً! أما الرياضيات التي كنت أدرسها، فستكون وسيلة لحصولي على شهادة. وستكون نزهتي في حياتي، ووسيلة لتفرغي للقراءة، ثم الكتابة. اتخذت هذا القرار وأنا لا أملك زمام اللغة. وعندما جربت الكتابة لاحظت أن لدي أسلوباً جميلاً، أسلوباً متميزاً، لكن لغتي التعبيرية كانت ضعيفة أو ضعيفة جداً.
بدأت أكتب إلى صديق ونحن كلانا نقيم في بغداد. أنا أكتب إليه وهو يقرأ. في 1958، عندما بدأت أكتب لغير قارئ واحد. وأصبحت أحد كتاب مجلة «المثقف» المهمين. لكن طريق الكتابة طويل ووعر. نحن كلنا، في عالمنا العربي، لم نكن كتاباً نملأ العين، باستثناء نجيب محفوظ في ثلاثيته وفقط. ليرمنتوف كتب رائعته «بطل من هذا الزمان» وعمره خمسة وعشرون عاماً. أنا أكتب عن نفسي الآن بعد أن أصبحت كاتباً معروفاً. وأنا أعترف بأنني بقيت على مدى سنوات محدود الإنتاج. كتابة المقالات في الدوريات لا تعني شيئاً. بقيت أسائل نفسي: ماذا أنا؟ كنت قد أصبحت غزير الثقافة، وما زلت أراكم معلوماتي في ذهني وعلى الورق. جمعت معلومات واسعة عن الرواية، بأمل أن أؤلف كتاباً عن الموضوع. تلك كانت عملية التفاف إذ كنت عاجزاً عن كتابة الرواية. لم أكتب هذا المشروع، لأن انقلاب 1963 أحرق كل شيء، بما في ذلك أوراقي وكل ما أحتفظ به من كتابات. وكاد يقضي علي أيضاً، لكنني أمضيت عامين في الاعتقال أحالا حياتي جحيماً. هل ألقي السلاح؟ حاولت الحصول على جواز سفر مزور للسفر إلى خارج العراق، ففشلت المحاولة.. ولم أسترجع أنفاسي إلا بعد سنوات. وتخليت عن كل شيء «طبيعي». وأصبحت أبحث عن اللا طبيعي، بما في ذلك الموسيقى الإلكترونية. وقررت أن أكتب عن الدادائية. وكتبت عنها شيئاً، وذلك بدافع الفضول، لأنني كنت أريد أن أعرف ما هي. واكتشفت أن في آدابنا القديمة أشياء لا تختلف عن «الحماقات» الدادائية. فتطرقت إلى ذكرها)).
ويواصل: ((وفي تلك السنة، 1970، شطحت مخيلتي كثيراً. كنت أريد أن أكتب اللا مكتوب. كنت ما أزال أحيا في أجواء الدادائية. قلت فلأكتب شيئاً بلغة الرياضيات، لغة المعادلات والمنحنيات الهندسية. وأتعامل مع الأشياء من خلال مضاداتها، من خلال المنفي آتي بالموجب، وبالعكس. هل أستطيع، مثلاً، أن أحدث انطباعاً منحنياً من خطوط مستقيمة فقط؟ نعم في وسعي ذلك! أستطيع، مثلاً، أن أرسم وجه إنسان من خطوط مستقيمة فقط. ورسمت عينين، وأنفاً، وشفتين، من خطوط مستقيمة فقط. هورا. سأكتب كتاباً من مثل هذه المغامرة. وكتبت «الأطروحة الفنطازية». كانت أجمل من قوس قزح. وكنت في حال غير منقطعة من الضحك. كنت أريد أن أؤلف كتاباً من الضحك بلغة المعادلات. ورحلت إلى مملكة اللا مكتوب. وصرت أنتقل من شطحة إلى أخرى، إلى أن وجدتني في مخزن أوروزدي باك. لم أكن أعلم يومذاك أن كلمة أوروزدي باك من الإنكليزية، كانت جولتي في مخزن أوروزدي باك أجمل شطحة من شطحات حياتي، لا سيما بعد دخولي الجناح الميتاأوروزديباكي، حيث استحال كل شيء إلى «meta». كنت أريد أن لا أكف عن الضحك. الصور كانت تتلاحق. في الجناح الأوروزديباكي كان كل شيء طبيعياً، ربما باستثناء الكلمات المائلة. أما في الجناح الميتاأوروزديباكي فقد أصبح كل شيء ينتمي إلى عالم آخر. المرأة التي ألفيتها تعلك بإيقاع المتدارك (من أوزان الشعر)، صارت تعلك بإيقاع الميتامتدارك في الجناح الميتاأوروزديباكي. كنت أريد أن ألبد في مخزن أوروزديباك إلى الأبد، لأهرب من آيديولوجيا الواقع، لكنني لم أستطع سوى أن أكتب كتاب «الأطروحة الفنطازية»، الذي قرأ أدونيس مخطوطته بسرور. كنت أريد أن أشير فقط إلى معادلة الابتسامة قبل أن أودع هذا الكتاب، لكن الجريدة لا تحبذ التعاطي بلغة المعادلات)).
وعن الرواية يضيف: ((ثم جاء موسم الرواية. كانت دنياي الروائية ممحلة طوال كل تلك السنين، ثم هطلت عليّ سيول الرواية على حين فجأة. اتركوني، إذاً، مع الرواية، حتى لو كتبتها لنفسي فقط…))