د.سعد الهموندي
البارزاني المرجع والملجأ هو عنوان كتاب بقلم الدكتور سعد الهموندي مستشار الرئيس مسعود بارزاني و رئيس مؤسسة رؤى للتوثيق والدراسات الأستراتيجية والمستقبلية، الذي يتضمن محطات مهمة من شخصية الرئيس مسعود بارزاني ومواقفه وبعض الأحداث، التي جعلت منه مرجعاً سياسياً يستشار ويأخذ بتوجيهاته ونصائحه عند حدوث الأزمات والأنسدادات السياسية ، وملجأ لجميع العراقيين اثناء المحن والظروف الصعوبة، لذلك نسعى من خلال نشر اجزاء الكتاب ان نلقي الضوء على خصوصياته الأخلاقية ومواقفه ازاء خصومه و صبره وحنكته وذكائه في التعامل مع المواقف الصعبة التي واجهته سواء اثناء ايام الكفاح المسلح او عند النزول من الجبل لينشأ اقليماً عامراً زاهراً ليصبح رقماً صعباً في المعادلات السياسية والتوازنات في العراق والمنطقة.
الجزء الأول
لربما من اكثر الاسباب التي دعتني الى كتابة هذا الكتاب انني على الدوام كنت اتعلم اشياءً جديدة وممميزة وغريبة من شخص مسعود البارزاني فهو الشخص الذي يمنح كل من ينظر اليه قوة وقدرة في المعرفة كيف على الانسان ان يحافظ على هدوءه في اوقات الازمات وهو الذي كان قادراً على الرجوع خطوة للوراء والنظر الى الصورة او المشهد بشكل اشمل فيرى اكثر منا ليمتلك عمقاً في التفكير واجادة في التأمل ضمن قدرات ذاته ودوماً ما كان يفكر بالبدائل دون ان ينسى ان العالم يتغير على الدوام من حولنا فلا صديقنا يبقى صديقاً ولا عدونا يبقى عدواً ولربما يظن البعض ممن سيقرأون ما كتبته عن تجربتي الخاصة بهذا الرجل العظيم انني ابالغ بعض الشيء لكن في حقيقة الامر حاولت جاهداً ان اقف على الحياد دوماً لأضع الناقد والمراقب والسياسي والمواطن؛ في دائرة الرؤية العميقة الى حكمة وذكاء مسعود البارزاني فأكثر ما كان يشدني للنظر اليه انني اكتشف في كل مرة قدرته العجيبة على التعامل مع المواقف التي قد تتسم بعدم الوضوح فمهما كانت المشاكل التي امامه معقدة نراه ينظر الى ايجاد حلول لم يكن لتخطر على بالنا واستذكر هنا قصة حدثت معي انا شخصياً لربما كانت هذه القصة هي المحفز الاكبر والاعظم التي جعلتني اقدم بكل جرأة ونشاط على كتابة هذا الكتاب ..
تبدأ قصتي حين كنت منكباً على تأليف كتابي الاول (( مصطفى البارزاني يبقى في ذاكرة التأريخ دوماً )) حيث كنت التقي ببعض الشخصيات العالمية التي تحدثت عن الملا مصطفى وعن التجارب الانسانية والسياسية والاجتماعية التي كانت تدور فيما بينهم فوقع بين يدي حينها بعض الوثائق التي تفيد بشخصيات ناقدة وكارهة ومعارضة للكورد بشكل عام ولبلادنا وارضنا بشكل خاص ووضعت هذه الوثاىق بين يدي مسعود البارزاني آنذاك ثم لاكتشف ان اغلب هؤلاء الكارهين والناقمين يقابلون بمعاملة طيبة بل ومعاملة عظيمة من البارزاني واغلبهم مازال على راس عمله في الاقليم واكثرهم ينعم ويستفيد من خيرات كردستان فجلست احدى المرات قبالته كانت النار تسعر بداخلي من طبيعة هذا التصرف الغريب فهؤلاء اذا ما نظرنا اليهم بعين سياسية ودبلوماسية سنرى انهم يشكلون خطراً عظيماً وكبيراً على امننا وعلى ارضنا وطلبت منه ان يشرح لي سبب تغاضيه عن محاسبتهم او عن ابعادهم او الحذر منهم على الاقل تقدير..
حينها نظر مبتسماً وذكر لي قصة عرفت حينها ان هذا الرجل يتمتع من صفات الحكمة ما يجعله يعيش حياة رغيدة من السلام والاطمئنان الداخلي..
بدأ حديثه بالقول (جلس رجل على ضفه نهر يتأمل خلق الله في هذه الطبيعة وفجأة لمح عقرباً وقد وقع في الماء واخذ يتخبط محاولاً ان ينقذ نفسه من الغرق فقرر الرجل ان ينقذه فمد له يده فقرصه العقرب من كلابتيه مع محاولة ان يلعسه من ذيله سحب الرجل يده صارخاً من الالم لكن لم تمض سوى دقيقة حتى مد يده لينقذه ثانية وفعل العقرب ما فعله في المرة الاولى وتتالت المحاولات الرجل يمد يده للمساعدة والعقرب يضرب بكلابتيه وذيله ليلسع على مقربة منه كان يجلس رجل آخر يراقب ما يحدث،
فصرخ به: الم تتعظ من المرة الاولى والثانية والثالثة.
فلم يأبه الرجل الحكيم بكلام ذلك الرجل واستمر بالمحاولة حتى نجح في انقاذ العقرب من الغرق…
ثم مشى باتجاه ذلك الرجل وربت على كتفه قائلاً يابني من طبع العقرب ان يلسع ومن طبعي ان اعطف واقدم المساعدة واسامح فلماذا تريدني ان اسمح لطبعه ان يتغلب على طبعي).
حينها استوقفتني هذه الجملة (لماذا تريدني ان اسمح لطبعه ان يتغلب على طبعي ومن ذات الوقت عرفت ماذا يريد البارزاني من كل افعاله تلك وعرفت انه كان وسيبقى صاحب اليد العليا وصاحب يد الاحتواء ولأكتشف اليوم ان سياسة الاحتواء هي السياسة الوحيدة التي جعلت كردستان دولة امن وآمان بلد يعلم التسامح والحب وعرفت انه سيأتي اليوم الذي نكون فيه على اعلى قمم النجاح كاالشعوب الأخرى اذا ما عرفنا السير على نهج هذا الرجل العظيم.
ومن هنا استطيع القول ان هذا الكتاب المتواضع هو سيرة رجل اصبح اليوم مرجعاً سياسياً ووطنياً وملجاً انسانياً وقومياً.
فاذا ما ذكر اسم البارزاني تاريخياً على الفور سيتبادر الى اذهاننا صورة ذلك الفتى الراشد الجالس بجانب والده الملا مصطفى البارزاني الرجل العظيم الذي عاش للخير فحصد المجد بعد ان قدم روحه كدواء للمستضعفين وافنى حياته في سبيل اعمار كرامه شعبه فكان دوحة وارفة يستظلها قومه اذا ارهقتهم الحياة.
والصخور التي كانت تسد طريق حريته استند عليها ليصل الى قمة غايته فكانت كوردستان اليوم وكان مسعود البارزاني الرجل الذي يمثل استثناء في المشهد الاقليمي وحضوراً سياسياً فاعلاً ضمن المشهد الرسمي العالمي واصبح يعامل اليوم من قبل الاطراف الدولية النافذة كرئيس دولة ذات تاثير استراتيجي على محيطها.
اليوم مسعود البارزاني تصدر انسانياً ليكون الملجأ لشعبه ومرجعاً لعمله السياسي وللسياسة الاقليمية التي تعمل لاعادة ترتيب اوراق الشرق الاوسط الذي بات بسبب سياسات بعض حكام دولة مسرحاً لتصفية الحسابات الدولية.
كما انه نجح في ربط عاصمة بلاده (اربيل) بالعالم سياسياً واقتصادياً واعاد انتاج سياسة اقليمية جديدة في المنطقة تضع في حسبانها الثقل السياسي والاقتصادي لإقليم كردستان العراق.
وقبل ان نخوض في معادلته السياسية والانسانية لنعرف انه ولد في مدينة مهاباد في كوردستان ايران في 16 اغسطس / آب عام 1946 حيث كان والده الملا مصطفى بارزاني المسؤول العسكري في جمهورية مهاباد الكردية وواصل الدفاع عنها لمدة عام حتى دخلتها ايران بقوة عسكرية غاشمة فغادر مع المئات من انصاره الى الاتحاد السوفيتي السابق بينما عاد مسعود بارزاني مع افراد عائلته والآلاف من ابناء عشيرته بارزان الى العراق لمتابعة النضال.
ومن هنا نرى ان عائلة البارزاني كانت متصدرة المكانة الدينية والعشائرية ضمن كوردستان للعمل في سبيل المضطهدين وحقوقهم وخاصة الكرد.
فالسلطنة العثمانية اعدمت الاخ الاكبر لملا مصطفى الشيخ عبد السلام بارزاني عام 1914 بعد قيادته ثورة مسلحة ضد الحكم العثماني الجائر لمناطق كردستان انذاك.
وبعد الاطاحة بالنظام الملكي في العراق في الرابع عشر من يوليو تموز عام 1958 سمحت الحكومة العراقية عودة الملا مصطفى بارزاني الى العراق وكان مسعود بارزاني يبلغ من العمر 12 عاماً حينها.
في عام 1961 ترك الدراسة وهو في الـــ 15 من العمر والتحق بصفوف قوات البيشمركة عندما بدأ والده ثورة مسلحة ضد الحكومة العراقية لما وصفه بعدم وفائها بتعهداتها بمنح الكرد حقوقهم.
شارك مسعود بارزاني مع شقيقه الراحل ادريس في الوفد الكردي خلال المفاوضات التي جرت مع الحكومة العراقية في بغداد في مارس/ اذار 1970 والتي ادت الى توقيع اتفاق الحكم الذاتي لكردستان.
لكن الطرفين اختلفا مرة اخرى بسبب عدم التزام الحكومة العراقية وعادت القيادة الكوردية الى اعلان استئناف الكفاح المسلح حتى عام 1975 عندما ابرمت اتفاقية الجزائر بين العراق وايران.
وبعد وفاة الملا مصطفى في الولايات المتحدة حيث كان يعالج اختير مسعود بارزاني في عام 1979 رئيساً للحزب الديمقراطي الكردستاني وفي ذات العام تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة في العاصمة النمساوية فيينا اسفرت عن اصابة احد مساعديه بجراح.
بعد حرب الخليج الاولى عام 1991 واندلاع انتفاضة الكورد ضد النظام العراقي بدأ فصل جديد في حياة السياسية للبارزاني.
فقد اعلن التحالف الغربي المنطقة الكردية ملاذاً آمناً وسميت بالخط (36ــــ 34) وسحبت الحكومة المركزية قواتها وادارتها من المنطقة فتقدم الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني لملء هذا الفراغ.
وهكذا تحول مسعود بارزاني من زعيم حزب ثائر ضد بغداد البعثية الى رجل دولة يقود الملايين المدنيين في مناطق كردستان العراق الخارجة عن سيطرة نظام صدام حسين وحزب البعث.
في 12 يونيو/ حزيران عام 2005 انتخب السيد مسعود بارزاني بالاجماع من قبل شعب كردستان العراق كأول رئيس منتخب للاقليم.
وبعد هجوم تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) في يونيو/ حزيران عام 2014 بدأت حكومة الاقليم مع قوات البيشمركة التصدي لزحف التنظيم فاستعادت مساحات كبيرة من المواقع والمدن والقرى بعد ان تخلى جيش الحكومة الأتحادية عنها.
فحركات التحرر الوطنية الكردية لم تمثل في نضالها السياسي والعسكري حماية الكرد فحسب بل جميع الشعوب المحيطة بكردستان وبعبارة اخرى قضية الكرد اليوم اصبحت تتصدر اي مشهد سياسي في منطقة الشرق الاوسط خاصة بين دول مثل ايران والعراق وتركيا وسوريا ومن يريد فهم الوضع السياسي الراهن في المنطقة عليه ان يعرف اكثر عن السيد مسعود بارزاني ذلك الرجل الذي يعد اليوم مرجعاً يقرأ المتغيرات السياسية في المنطقة وملجاً يخيط ويرمم فجوات السياسة التي يصنعها الغير.
فعندما نتكلم عن مسعود بارزاني علينا ان نكون حذرين للغاية لانه ليس كبقية القادة او الزعماء في العالم بل هو شخصية نادرة صنعتها ظروف نادرة امتزجت مع صفاته الموروثة لتجعله بالصورة والسلوك الذي شاهده وعرفه العالم.
ولكي نحافظ على المنهجية العلمية في التحليل علينا ان نتناول هذه الشخصية المهمة عبر اولاً المادية التي يتمتع بها مسعود البارزاني.
فبداية نرى كاريزما خاصة به تختلف عن بقية الساسة في العالم سواء في العراق ام في غيره تجعله محبوباً ومحترماً من قبل الكثيرون.
فهو قائد وزعيم وليس رئيس او مسؤول اعتيادي والتعابير المرسومة على وجهه وهدوءه وطريقة كلامه هي دلالات واضحة على ذكائه وقوة شخصيته وتجعله اقرب الى القائد المتوازن فمظهره الخارجي بالاخص ملابسه الكردية هي ليست بالمصادفة او عبثية بل مستوحاة من الهوية الاساسية التي يمثلها وهي الهوية الكردية تاريخياً.
اما معنوياً وللتعرف على البيئة التي نشأ فيها مسعود البارزاني سنعرف الكثير من الاجابات حول شخصيته الصارمة والمتوازنة فبالاضافة الى طبيعة الكردي التي تميل الى الصبر والعناد والمطاولة والاصرار على تحقيق الغايات مهما كان الثمن.
فهو ابن تربى وتدرب على يد ابيه الزعيم السياسي ملا مصطفى البارزاني و تأثر مسعود بارزاني به كثيراً فقد شاهد وشارك في معارضة والده المستمرة للانظمة المتعاقبة في بغداد بالاخص في مرحلة ما بعد عام 1968.
كما تمكن البارزاني من ان يستثمر المتغيرات الاقليمية والدولية عام 1991 وبالتعاون مع الأمين العام للاتحاد الوطني (جلال الطالباني) وان يشكل اقليم كردستان.
وبعد عام 2003 نجح البارزاني من ان ينال الأقليم الاعتراف الدستوري بل وبتعميم الفيدرالية على كل العراق.
حتى طريقة الحكم والادارة في الاقليم فقد كانت خاصة اختلفت عن غيرها سواء في العراق او في المنطقة من حيث المركزية الشديدة والتوجيه الموحد للامور هذه الطريقة قد جاءت بنتائج ايجابية وكبيرة للاقليم ابرزها الاستقرار الامني والتنمية الاقتصادية الشاملة.
الشيء المهم الآخر في اداء البارزاني هو ابعاد الاقليم عن التيارات الدينية المتشددة حيث بقيت الهوية القومية هي السائدة دون ان ينقسم الى مذاهب او حركات اسلامية كما هو حال بقية العراق وبعض الدول المجاورة وعبر هذه الخطوة تمكن من ان يحول دون ان ينفجر التطرف في المناطق الكردية كما حصل في الدول المجاورة.
ان الخلل الموجود في الحكومة الاتحادية من سوء الاداء والمحاصصة قد رفعت من شأن حكومة الاقليم مما جعل البارزاني وحكومته اقرب للدولة المستقلة من معنى الاقليم المرتبط بالمركز فادارة الاقليم كانت افضل من الادارة في الحكومة المركزية.