الباحثة: فاطمة الظاهر
رحل عنا الفنان الكبير احمد الخليل في العام1998 ، عن عمر يناهز 76 عاماً ويعتبر من جيل المجددين في الموسيقى والغناء العراقي، حيث ظهرت هذه الحركة التجديدية في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، وأهم روادها هم (أحمد الخليل وجميل سليم ، عباس جميل ، ورضا علي ومحمد كريم وغيرهم) نتيجة لتأثرهم بالأعمال الغنائية في السينما المصرية والتي بدأت تغزوا البلدان العربية قاطبة ومنها العراق، وكذلك نتيجة لتطور النظام السياسي والاقتصادي الذي شهد نموا وتطورا نسبيا في حياة المدن وخاصة العاصمة بغداد، لذا أتسمت ألحانهم بطابع المدينة العصرية الذي يختلف بسماته اللحنية عن الغناء الريفي او غناء المقام والبستات العراقية التقليدية والذي كان رائجاً في فترة ما قبل الخمسينيات مما حدا بالنقاد الى أطلاق تسميتة (الأغنية البغدادية) لتمييزه عن أنواع الغناء العراقي الاخر .
ولد الفنان أحمد الخليل سنة 1922 في منطقة ( بادينان) ضمن محافظة دهوك ( المنطقه المتاخمة للحدود التركية) وهو كوردي القومية. لقد تأثر الفنان احمد الخليل بأنواع الموسيقى والغناء الذي كان سائدا آنذاك، كالموسيقى الكوردية التي تشبع بها في طفولته وكذلك بالمقامات العراقية، وبالبستات العراقيه التي غناها المطربين والمطربات قبل فترة الخمسينيات..
وكان لرواج الأفلام السينمائية المصرية، وخاصة الافلام الغنائية، أثرها البالغ على الفنان احمد الخليل وغيره من الفنانين المعاصرين له والمجددين بالأغنية العراقية، خاصة في فترة الخمسينات التي كانت ثرية جدا بهذه الافلام الاستعراضية والغنائية التي امتزجت مع ألحان محمد عبد الوهاب التجديدية، وكذلك افلام وألحان فريد الاطرش، وغيرهم من الملحنين. لقد أنعكس هذا التأثير على الالحان والغناء العراقي الذي أنتجه هذا الجيل، أذ كانت المراحل الاولى من هذا التأثير يتسم باستعارة قوالب الالحان المصرية، وطريقة الغناء التي كانت تحاكي نموذجها المصري، مما أثار هذا الامر أستياء وأستهجان الاوساط الموسيقية والغنائية التقليدية المحافظة، ومع التوسع بدور العرض السينمائي وكذلك ظهور التلفزيون، أتسعت رقعت الجمهور الذي يتابع هذه الافلام، كما أنه ساعد على نشر نتاج هؤلاء الفنانين، الذين انتقلوا فيما بعد من مرحلة المحاكاة للألحان المصرية الى توظيفه وتوشيجه مع التراث الغنائي العراقي، الذي نتج عنه تبلور لنمط جديد من الغناء، يحمل سمات وخصائص تميزه عن غيره من أنماط الغناء المحلي، ما صار يطلق عليه (بالأغنية البغدادية) التي كان من أبرز رموزها جميل سليم وأحمد الخليل وعباس جميل ورضا علي ويحيى حمدي.
دخل الفنان أحمد الخليل الأذاعه العراقيه سنه 1950، وقد شارك الوفد الذي اختاره وزارة الدفاع العراقية للذهاب الى فلسطين للترفيه عن الجيش العراقي المتواجد هناك خلال الحرب عام 1948، مع مجموعة من الفنانين المرموقين.
كان الفنان احمد الخليل من الفنانين النشطين لذلك لم يقتصر عمله على الإذاعة العراقية والتي كانت تسمى (المحطة اللاسلكية في سنة 1950) وانما كانت له حفلات مستمرة في أماكن عده منها (النوادي الاجتماعية) وحفلاته الدورية في صالات دور السينما مثل: سينما النصر وسميراميس وسينما بابل والخيام وسينما روكسي.
ويعتبر الفنان (احمد الخليل) اول من جسد الإخوة بين العرب والكورد عندما غنى اغنيته المشهورة التي ذاع صيته على اثرها، فأصبح رمز عراقي اصيل.ونموذج للوطنية العراقية المميزة، أغنية (هربجي كرد وعرب رمز النضال) والتي أخذت شهرتها الواسعه بين عموم الشعب العراقي، جسد فيها روح التآخي بين العرب والكورد وكان قد أداها لأول مرة في أوائل عام 1959.
لحن الفنان نشيد (أمتي يا أمة الأمجاد) بعد أشهر قليله من نكسة حزيران سنه 1967، والتي كانت تبث بشكل يومي من الإذاعات العربية فأشتهر هذا النشيد بشكل واسع على عموم الوطن العربي.
الفنان احمد الخليل غزيز الإنتاج في التلحين وكان لا يخلو من الابداع، ويعتبر معين لا ينضب ولا يجف ، فقدم الحانا تلو الألحان لمعظم مطربي فترة الستينات والسبعينات والثمانينات، كانت رأسه تملؤها الافكار الموسيقية، حدثني عنه المرحوم الدكتور خالد إبراهيم (رئيس قسم الفنون الموسيقية سابقاً في كليه الفنون الجميلة – بغداد) فيقول :
” كل خميس كانت لدينا سهرات للراحة والاستجمام والفنان احمد الخليل كان يحب تلك السهرات، فما ان ينتشي حتى يقول :” أأتوني بالعود” ويبدأ بعزف لحن جديد لأغنيه جديده حتى قبل ان توضع كلماتها، ثم يقول لي”من فضلك يا خالد دوّن ما أعزفه لأنني غداً سوف اكون قد نسيت ما عزفته اليوم “لانه لم يكن قادراً على قراءة النوطة او تدوينها. لذا كنت أدوّن الجمل الموسيقية التي كان يعزفها الخليل في الجلسة، وقد يضطر احيانا الى عزف الجملة الموسيقية الواحده لأكثر من مرة الى حين الانتهاء من تدوينها بالنوطة على السلالم الموسيقية، وما أن ينتهي من هذا اللحن حتى يبتكر لحن جديد غير اللحن الاول وهكذا يستمر حتى آخر الجلسة، مما شكل عبئاً كبيراً علي بسبب هذه القريحة المتفتحة والغزيرة بالإنتاج، والتي كانت تحرمني من لذة الاستمتاع بالأمسية التي كانت تضم صفوة الموسيقيين والمثقفين، مما أضطرني الى جلب آلة تسجيل ، نسجل عليها ما تجود به قريحته اللحنية في جلساتنا اللاحقة، حيث أقوم بأفراغها فيما بعد بالنوطة على السلالم الموسيقية “.
تتسم ألحان الخليل، برقة الاحساس وعذوبة النغم ، وببناء لحني يتسم بالسلاسة، ومع ما كان يمتلكه من أمكانات صوتية تتسم بالقوة والسعة والعذوبة التي عبر عنها بمجموعة من الاغنيات التي ترسخت في الذاكرة البغدادية، سعى ككل أبناء جيله الى البحث عن أصوات أخرى تغني من الحانه التي تختزنها روحه المترعة بالموسيقى والغناء وحب الحياة والوطن، مما دعاه الى البحث عن هذه الاصوات، كأي كشاف ينقب عن الجواهر، وقد قاده بحثه هذا الى اكتشاف مجموعة من الاصوات الغنائية تربعت فيما بعد على هرم الاغنية العراقية الحديثة، ومنهم المطربة الكبيرة مائدة نزهت، وأمل خضير ، ورياض أحمد. كما ساهم في شهرة وتطور الكثير من المطربين والمطربات ومنهم أحلام وهبي التي منحها الكثير من الاهتمام والالحان.
لقد أتسمت مسيرة هذا الفنان الكبير بالعطاء وحب الناس والوطن، منذ الخمسينيات من القرن الماضي، وحتى العقد الاخير من القرن، حيث عبر عن هذه المسيرة من خلال تنوع ألحانه التي تغنت بالحب والسلام وحب الارض والناس، التي تشربتها روحه الصادقة والمتحسسة لمنابع الجمال والخير .
ومن أعماله البارزة التي لحنها وغناها الآخرين :-
(يا حلو گلي شبدلك، يا حلو يا أسمر، اريد الله يبين حوبتي بيهم، حركت الروح لمن فاركتهم، بعيونك عتاب) هذه الأغاني غنتها المطربة الكبيرة عفيفة إسكندر. أما المطربة مائدة نزهت فغنت له (فد يوم، وكذاب الأسمر، وكالو حلو، ويلي تريدون الهوى) أحلام وهبي غنت له (سبع تيام من عمري حلالي، ووحيده يا يمة).
لقد توج أحمد الخليل أعماله الفنية بموشح (قل للمليحة في الخمار الأسود) للشاعر مسكين الدارمي، وقد أبدع الفنان الخليل في تلحين هذا الموشح حيث مزج بين التراث والحداثة ، وجاء بلحن فريد من نوعه ومن مقام الهزام ، وقد أخذ نصيبه الأكبر في الإذاعة العراقية والإذاعات العربية على حد سواء، وبعد ان قام الفنان شعوبي ابراهيم بتخميس هذه القصيدة وزيادة ابياتها اضاف عليها الملحن احمد الخليل نكهه صوفية خالصة من مقام السيكا العراقي لتتناسب مع كلمات القصيدة بعد ان كانت تؤدى كأغنية طربية سريعة مثلما أدتها المطربة راوية في تسجيل يعود الى ستينيات القرن المنصرم، ولم تسجل هذه القصيدة بعد زيادة ابياتها حتى قامت الباحثة الموسيقية السيدة فاطمة الظاهر بتسجيلها تحت أشراف وقيادة الدكتور خالد إبراهيم، وبمصاحبة فرقة كلية الفنون الجميلة .