متابعة التآخي
في سبعينيات القرن الماضي، ظهرت لوحات فيصل لعيبي بوصفها إعادة إنتاج بلغةٍ معاصرة للتصاوير والمنمنمات التي راجت في مخطوطات القرن الثالث عشر، لكن انشغالاته بدت مغايرة لمقترحات بصرية عديدة عرفها المشهد التشكيلي العراقي منذ الأربعينيات.
أراد الفنان العراقي (1945)، توظيف الرسم في حضارات بلاد الرافدين والفنون الإسلامية من خلال استعارة تقنيات غربية، مستفيداً من دراسته في “المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة” بباريس بعد تخرّجه من “معهد الفنون الجميلة” في بغداد، وعمله رساماً في الصحافة العراقية لسنوات عدّة.
يعكس معرضه “يوميات عراقية”، الذي افتتح في “غاليري المرخية” بالدوحة، محاولةً جادّة لتقديم رؤية جديدة لرسوم الواسطي وكمال الدّين بهرزاد، تتمثّل في إبراز عمق اللوحة الذي كان غائباً عن أعمال المصوّرين الإسلاميين بأبعادها المسطّحة، وخلْق أسلوبٍ منظوريّ وهمي بزوايا متعدّدة، وكذلك تلاعبه بقواعد التشريح، حيث لا تتطابق مع الواقع.
تبرز الأمكنة التي يرسمها كخشبة مسرح تتحرّك عليها شخصياته. شُغِف لعيبي بالتنوّع اللوني الهائل الذي اعتمده فنانو المنمنمات الأوائل واستخدامهم تدرّجات الألوان بحيوية مذهلة، ما ترك تأثيره البالغ على أعماله التي تتّكئ على حالة التضادّ بين الألوان الباردة والحارّة، مع انتباهه في مرحلة مبكّرة إلى أن هذه التباينات والتناقضات تحفّز المتلقّي على التذكّر وإيقاظ حنينه إلى موضوعات رسوماته.
وفْق هذه المعادلة، يتتبّع الفنان مشاهدًا وطقوساً من الحياة الاجتماعية في العراق طوال ستّين سنة مضَت، ويختار الصيّادين والعمّال وصبّاغي الأحذية والحلّاقين وباعة الفواكه والجزّارين ونسّاجات البسط والحائكات والمصوّرين الفوتوغرافيين وغيرهم من أصحاب المهن أبطالاً للوحته، إلّا أن غايته الأساسية تتحقّق من خلال إزاحة النظر نحو أفعالهم واسترجاع تفاصيلَ وأجواء لا يزال العراقي مسكوناً بها حتى الآن.
في توثيقه للواقع، تبرز الأمكنة التي يرسمها لعيبي باعتبارها خشبة مسرح تتحرّك عليها شخصياته وليست فضاءات ثابتة، حيث يميل إلى تقديمها في مناخات من الواقعية السحرية أو تقديمها ككرنفال يتجاور فيه أناس عديدون يقومون بأعمال مختلفة أو يبدون في حالة حوار وتفاعلٍ في ما بينهم أو يطيلون النظر نحو الأمام؛ أي باتّجاه المتلقّي.
كما يحضر حِسّ الطرافة والفكاهة في بعض الأعمال من خلال طريقة رسمه الوجوه ونظرات أصحابها وابتساماتهم، والتي تحيل إلى أثر سابق يتّصل بامتهانه رسم الكاركاتير في بدايات حياته، لكنّها في الوقت نفسه قد تعبّر عن سخرية ما وإنكار للّحظة الراهنة.
تعبّر تجربة لعيبي عن منطقةٍ ملتبسة أو هجينة، فبينما تحيل رسوماته إلى تعبيرية جمالية تحتفي باللون والزخرفة، إلّا أنها تشكّل موقفاً من الواقع والمجتمع ورغبة في اختزال الألم والمعاناة التي عاشها العراقيون من خلال استعادة “روح” تبدو غائبة اليوم، وربما هذا ما يدفعه إلى التأكيد دائماً على أنه فنّان اجتماعيّ ملتزم بقضايا المُجتمع، ولا يُؤمن بأن الفن للفنّ .