جمال العتابي
الناصرية المدينة في جنوب العراق، ولد فيها صلاح نيازي، مثل ترنيمة عذبة، ورنين قافية، وشوق وابتهال، في سيرة نيازي «غصن مطّعم في شجرة غريبة» الصادرة في بغداد عام 2013، عن دار ميزوبوتاميا.
مدينة الناصرية، هي أربع مدن في اليوم الواحد، تستيقظ صباحاً استيقاظ مريض، لا تقوى على غسل وجهها، وفي الظهيرة تبيض فيها الشمس السمتية، فتنام وهي تنزّ عرقاً، لدرجة الموت، وعند العصر يدبّ في أوصالها الغزل، فتندفع إلى النهر الذي هو سلال من طيور ونهود، وفيه يمشّط النخيل سعفه المضفور، وفي الليل تغني غناءً حزيناً، ممتلئاً بالقلوب الجريحة، والتأوه والنجوم، والقمر وخذلان الزمان.
نيازي يكتب سيرته كأنما فيها يودع مدينته الأثيرة، الناصرية، وهو يبتعد عنها، متشبثاً بعروق النخل الممتدة إلى عمق الفرات، يغور في مسالكها، يتوجه إلى السماء أن لا تطفئ رياح اليأس أحلامه. شجرة الرازقي وورودها الصغيرة البيضاء كاللؤلؤ الرطب، لم يشمّ عطراً كعطرها، وهو الجوّاب والمسافر نحو الأصقاع، ثمة شعور بالذنب، وتأنيب الضمير، لِما فارق الشجرة؟ يقول: لكني أقتلعت عنها مجبراً، لو كانت تقرأ أو تكتب لبعثت لها رسائل الآن، بالتأكيد أنها أنثى مسحورة، أحسّها للآن تعرش فوق صدري، فراقها عليّ أمضى فراق، كان يجب أن تُسجل كأحد أفراد العائلة في دائرة الأحوال المدنية. صلاح نيازي يلوذ بالشجرة من طوفان وشيك، هو يفزع نحو بلاد الضباب، بحثاً عن أيما مكان لا يبعد عن تاريخ نسجته العصور حول وجه الناصرية السومري، وشعرها الليلي الأثيث، وفرعها الفائق الاكتمال. تشكّلت معلومات نيازي مما كان يسمعه من خرافات ومن أغان، وما أكثر المغنين في مدينة الناصرية، ومن تهاويد ونواح، وفي المدرسة حفظ الأناشيد والقصائد، وظهرت الحاجة إلى النثر في درس الإنشاء، في الدراسة الأولية، قرأ البيان والتبيين للجاحظ، كانت تجربة مريرة، لم يكملها، لكنه تعلم منها، ان إتقان الأدب يحتاج إلى عناء وجدّ ومثابرة.
الكتاب الذي قرأته بلهاث حقيقي، يقول نيازي: وعلى ضوء القمر هو (سيرانو دي برجراك)، ترجمة المنفلوطي، رشّ هذا الكتاب في جسده لذة حزينة، لم يجد له مثيلاً فيما بعد، إلا حين تعرف على دستويفسكي. انكبّ على حفظ الشعر القديم منذ صباه، محاولاً كتابة الشعر بعسر شديد كما يقول: الكتابة وحدها تدلّك على فقرك الأدبي، ونقاط ضعفك، نشر أول قصيدة له في جريدة «الفيلسوف» التي كانت تصدر في العمارة. استحوذت ثيمتان على معظم أشعار صلاح، هما الوداع واللقاء، في أهم ما كتب من قصائد.
أكمل نيازي الدراسة الإعدادية في بغداد، عندما بدأت في الخمسينيات تجترح معجزات صغيرة في الفن المعماري، والتشكيل والشعر الحديث، بغداد بالمقارنة إلى الناصرية، أسرع إيقاعاً، وأكثر حيوية، تستيقظ بغداد متعبة تعب عروس باكتمال لذتها، وفي الضحى ينشط نحلها، عند الظهر تنام بحماقة وعصبية، في الليل تنفلت وتغرق في الحب، شارع أبي نواس أكبر معرض للرجال المحبطين، وللنساء من ذوات العيون الجارحة. كلية التربية كرنفال آخر، لأصوات الطالبات فيها رقة الرذاذ مهما كانت اللهجة، كانت فترة الدراسة أهم خميرة في حياة نيازي الأدبية. الهروب بالجلد، أقصى ما يمكن من طموح، واللعنة على مسقط الرأس، قطع صلاح التذكرة من بغداد إلى لندن عن طريق القطار، بلا لغة ولا فلوس، الهروب، النجاة، الابتعاد عن الكابوس الذي بدأ يخيم على العراق أوائل الستينيات، في لندن بدأ يكتشف عيوبه، حينما يعيد صياغة ما ترجَمه من اللغة العربية، أصعب الأيام على الغريب هو يوم الأحد، المدينة تموت جزئياً، تزداد الغربة أضعافاً، وجد طريقه للعمل في إذاعة BBC، فيها تعرف على الأديب السوداني الروائي الطيب صالح، كان يتحاشاه أدباً، يقول نيازي: في الواقع ليس أدباً مئة في المئة، لكن كنت أخشى أن يفتضح لديه جهلي، علوم الطيب عافية، كعافية الغذاء تنتشر في كل الجسد، الجلسة معه مهدئة للأعصاب، لم أسمعه مرة يتحدث عن نفسه ليتميز عن غيره، يخالفك الرأي بألفاظ مسالمة، وابتسامة متواددة، كثيراً ما يروي قصائد طويلة بكاملها عن ظهر قلب، لشعراء إنكليز.
في لندن تحققت له رغبتان، الأولى، أنه دائماً ما يحذر من عيوبه، ويتمنى لو أنك عجزت عن اكتشافها، وذلك دفاع جيد من عدة دفاعات يلجأ اليها المرء ليتخفى، والثانية تخوفه من الريادة والقيادة، يتطير من كل تكتل أو تحزب من أي نوع، لم تكن له رغبة في النشر، وفي الوقت نفسه تهالك على النشر، لا يعرف كيف يعبّر عن هذا الإحساس الغامض المتناقض.
يختتم نيازي سيرته بتساؤل مثخن باليأس، ما الفائدة من كل هذا؟ الشيء اليقين في حياتي الآن هو الحيرة! الحيرة التي رافقتني مع أول كتاب مدرسي، هي ميراثي الأول والأخير، بحثَ جلجامش عن الخلود فأصابنا بعدواه، وأنا أفتش عما ينسيني حيرتي. نيازي… هي ذي غربة روح الجنوبي الحزين، أواه ما أقسى الحيرة على وجوه المنشدين!