الواجب الأخلاقي للعراق تجاه رواتب الإقليم

 

شيرزاد نايف

عند الحديث عن الواجب الأخلاقي الذي يتحمله العراق تجاه إقليم كردستان في ما يتعلق بصرف الرواتب، نطرح سؤالًا محوريًا يتجاوز حدود السياسة والموازنة؛ هل يجوز أن يظل المواطن ضحية لأزمة اقتصادية أو خلافات سياسية؟ هل من العدل أن يتوقف صرف حقوق الإنسان الأساسية في وقت الأزمات؟ ولأن الحديث عن الرواتب ليس مجرد مسألة مالية، بل هو مسألة تتعلق بالكرامة الإنسانية، فإن النظر إلى هذا الملف من زاوية أخلاقية يصبح أمرًا بالغ الأهمية. بعيدًا عن العواطف والنواحي الشعاراتية، ومن خلال رؤية منطقية واقعية بلغة الأرقام، نتساءل: هل سيكون المواطن هو الضحية في هذا السياق؟ ولكن، العراق بلد العواطف… ولذلك تظل قضية الرواتب أكثر من مجرد أرقام، فهي حق أساسي للمواطن، واستحقاق مكتسب بموجب العمل الذي يؤديه في خدمة وطنه. إن مفهوم «الحق» هنا ليس مجرد حق اقتصادي، بل هو حق اجتماعي وأخلاقي، وعندما يُحرم المواطن من هذا الحق، فإننا لا نتحدث فقط عن تدهور وضعه المالي، بل عن تآكل الشعور بالعدالة والمساواة، وهو ما قد يؤدي إلى زعزعة الثقة في الدولة بشكل عام.

 

نظرة فلسفية

 

لو نظرنا الى الموضوع نظرة فلسفية، يشير فيلسوف؛ (جون رولز) إلى «مبدأ العدالة» الذي يؤكد أن توزيع الثروات يجب أن يكون في صالح الأفراد الأكثر حاجة. وبالتالي، لا يمكن النظر إلى الرواتب على أنها مجرد مقابل للعمل المنجز، بل هي جزء من التزام الدولة بمبادئ العدالة الاجتماعية، التي تقتضي توفير حياة كريمة لمواطنيها. لذلك هنالك واجب أخلاقي يكمن بين ثنايا المفهوم الدستوري ـ إن صح التعبير ـ في العلاقات بين الأقاليم في السياق العراقي، تقع المسؤولية على الحكومة المركزية في بغداد تجاه توفير الرواتب لموظفي إقليم كردستان بشكل منتظم، ليس فقط لأن الدستور العراقي ينص على ذلك، بل لأن هذه مسؤولية أخلاقية تتجاوز القوانين الجامدة. فإذا كانت الحكومة الاتحادية في بغداد ترى نفسها كدولة لجميع العراقيين، فإن واجبها الأخلاقي يفرض عليها ضمان العدالة في توزيع الثروات والموارد بين مختلف الأقاليم.

 

قد يطرح البعض تساؤلات حول «الاستحقاق» أو «الجدارة» في هذا السياق، ويركز على الخلافات السياسية والمالية بين بغداد وأربيل، لكن الحقيقة تكمن في أن هذه المواقف لا تبرر بأي حال من الأحوال المساس بحياة المواطن البسيط. فكما يقال في الأمثال: «البرق لا يميز بين المؤمن والكافر»، فإن السياسة لا يجب أن تميز بين مواطن وآخر بسبب أيديولوجيات أو سياسات حكومية. فهل من المنطق أن يكون المواطن هو الضحية؟!

 

الحديث عن حقوق المواطنين في إقليم كردستان يشبه إلى حد بعيد الجسر الذي يربط بين منطقتين:

 

أحدهما في حاجة إلى الدعم والأخرى لا تتوفر فيها الإمكانيات. المواطن في الإقليم ليس مسؤولًا عن النزاع السياسي أو النزاعات الاقتصادية بين الحكومات، بل هو ضحية الظروف التي تتحكم فيها الإدارة والسياسات الاقتصادية. في هذا الإطار، يمكننا استخدام مثال النهر الذي يغذي الأرض: عندما يُحرم النهر من الماء، لا يعاني النهر نفسه، بل الأرض التي تعتمد عليه. وهذه هي حال المواطن في كردستان عندما يُحرم من حقه في الرواتب، فهو ليس المسؤول عن مصادر الإمداد، بل هو ضحية لإخفاقات سياسية.إن الحكومة العراقية تتحمل مسؤولية أخلاقية في أن تكون العدالة هي المعيار الذي يحكم توزيع الموارد بين جميع المواطنين في العراق، بغض النظر عن انتمائهم الجغرافي أو السياسي.

 

ومن هنا، تصبح الرواتب في إقليم كردستان أكثر من مجرد مسألة مالية؛ هي مظهر من مظاهر التزام الدولة بحقوق مواطنيها.

 

في فلسفة الواجب، يُنظر إلى «الحق» على أنه شيء يجب توفيره لأن الفرد جزء من مجموعة أوسع. وفي هذه الحالة، المواطن في إقليم كردستان هو جزء لا يتجزأ من الدولة العراقية. فإلغاء أو تأخير دفع الرواتب ليس فقط إخلالًا بالمسؤولية المالية، بل هو إخلال بالمفهوم الأخلاقي للعدالة. ومن هنا، فإن التزام الحكومة العراقية في دفع الرواتب يعني تأكيدًا على الالتزام بالقيم التي تضع مصلحة المواطن أولاً، حتى في ظل الأزمات المالية.

 

كمثال على ذلك، نستطيع النظر إلى «العدالة الاجتماعية» في الفكر الفلسفي الحديث التي يرى فيها الفيلسوف مايكل ساندل أن على الدولة ضمان المساواة بين جميع الأفراد، وأن هذا المبدأ يشمل توفير حقوق اقتصادية واجتماعية للجميع. من هنا، يتضح أن تأخير الرواتب ليس مسألة مالية فقط، بل هو مسألة تتعلق بمفهوم العيش الكريم الذي تفرضه الدولة على نفسها تجاه جميع المواطنين.

 

إن التحديات التي يواجهها إقليم كردستان في مجال دفع الرواتب هي انعكاس لغياب استراتيجيات مالية محكمة، ولإخفاقات في ظروف سابقة أثرت على التركيز على التنوع الاقتصادي والتنمية المستدامة.

 

ومع ذلك، لا يمكن تحميل المواطن المسؤولية عن هذه الإخفاقات. ففي النهاية، مثلما نتعامل مع المواطن ككائن إنساني له حقوق وواجبات، يجب على الحكومة العراقية أن تتعامل معه بنفس المعيار الأخلاقي الذي يقضي بتوفير الحقوق الأساسية لباقي المواطــــنين العراقيين دونما تأخير لان النسبة السكانية للاقليم لا يرتفع الى الربع بالمائة من الاجمالي للقطر.

 

وفي الأمثال الشعبية العراقية: «اليد التي لا تعطي خيرًا، لا تأخذ خيرًا»، يمكن القول إن العراق إذا لم يلتزم بتأمين حقوق مواطنيه، خاصة في إقليم كردستان، فإنه يفقد في النهاية أي مبرر لأيديولوجياته السياسية، وستبقى المسؤولية الأخلاقية في رقبة جميع القادة المعنيين.

 

السوداني ورؤيته أسباب تلاشي الواجب الأخلاقي

 

حديث رئيس الوزراء العراقي السابق، محمد شياع السوداني، عن الواجب الأخلاقي للدولة تجاه توفير الرواتب لموظفي إقليم كردستان يعكس الوعي بهذه المسؤولية الإنسانية العميقة. فقد أكد السوداني مرارًا على أهمية التزام الدولة بالقيم الأخلاقية في توزيع الموارد بين الأقاليم، بما في ذلك توفير الرواتب بشكل منتظم.

 

لكن، مع مرور الوقت، تلاشى هذا الحديث تدريجيًا، وتحول إلى مجرد شعارات  ومسكن للآلام، حيث لم تُترجم الوعود إلى أفعال ملموسة على الأرض. فبينما كانت الحكومة السابقة تتحدث عن الواجب الأخلاقي وضرورة العدالة في التعامل مع إقليم كردستان، ظلت الوعود دون تطبيق، بل وتعرضت الرواتب لتأخيرات متكررة. يضاف إلى ذلك أن العديد من المحاولات لتسوية الخلافات المالية بين بغداد وأربيل لم تفضِ إلى نتائج حاسمة، مما عمق الأزمة المالية في الإقليم، وجعل المواطن الكردي يعاني من تداعيات سياسية واقتصادية لا علاقة له بها.

 

عدالة اجتماعية

 

إن التلاشي التدريجي لهذا الخطاب الأخلاقي يكشف عن الهوة العميقة بين ما يُقال وما يُفعل في السياسة العراقية. وما لم تُترجم هذه الوعود إلى ممارسات عملية تعكس الالتزام الدائم بالعدالة الاجتماعية، فإن المواطن الكردي سيظل في دائرة الضياع، بين تصريحات لا تطبق، وواقع يعكس عجز الحكومة عن الوفاء بوعودها.

 

ماذا لو لم يكن لإقليم كردستان ثروة نفطية؟

 

إذا لم يكن لإقليم كردستان ثروة نفطية في باطنه، فإن الوضع الاقتصادي والسياسي في الإقليم سيكون مختلفًا بالتأكيد. لكن من الناحية الأخلاقية والسياسية، يجب على الحكومة العراقية أن تتحمل مسؤوليتها تجاه المواطنين في كردستان بغض النظر عن وجود النفط من عدمه.

 

 

 

في حال غياب النفط كمورد رئيسي للإقليم، كان من المتوقع أن تعتمد كردستان على القطاعات الأخرى مثل الزراعة، الصناعة، أو السياحة لتعزيز اقتصاده، مع استمرار الدعم من الحكومة المركزية وفقًا للالتزامات الدستورية.

 

ومع ذلك، في الواقع السياسي الحالي، يبدو للمراقب المحايد أن الحكومة العراقية تستخدم ملف النفط كذريعة لفرض ضغوط على إقليم كردستان. إذا لم يكن للإقليم نفط، فإن هذه الحجة قد تختفي، لكن من المرجح أن تظهر حجج أخرى تستهدف تقويض استقلالية الإقليم أو فرض أجندات سياسية دولية على حساب حقوق المواطن الكردي. هذه السياسات قد تستغل الظروف الاقتصادية للإقليم وتزعزع استقرار حياة الناس، بل قد تستخدم كأداة لتحقيق أهداف سياسية خارجية على حساب قوت المواطنين.

 

الواجب الأخلاقي للحكومة العراقية تجاه رواتب إقليم كردستان ليس مجرد مسألة قانونية، بل هو التزام إنساني بالعدالة الاجتماعية والحقوق الأساسية للمواطن. وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجه العراق، فإن العدالة لا تعترف بالمصالح الضيقة، بل يجب أن تستمر الدولة في توفير ما هو حق للمواطن بغض النظر عن خلافاتها الداخلية. العدالة هي التي تضمن لنا مجتمعًا متماسكًا، ومن دونها، يبقى المواطن ضحية، لا بل ضحية العجز الأخلاقي الذي يعوق تحقيق الدولة لمفهوم العدالة الاجتماعية.

 

 

قد يعجبك ايضا